التقليد طبع لكن بمن؟ ذ.أحمد اللويزة

الناس كأسراب القطا مجبولون على تقليد بعضهم بعض. ولذلك فالإنسان لا يستطيع أن يملك زمام نفسه دون أن يقلد شخصا أعجب به واستقر حبه في نفسه، ورأى فيه مثالا يحتذى ونبراسا به يقتدى، ونجما به يهتدى.

ويتخذ هذا التقليد والتأسي أشكالا ومظاهر متعددة تذهب إلى أبعد الحدود حتى ترى صورة طبق الأصل بين شخصين، أحدهما يقلد الآخر إعجابا وانبهارا بدءا من كثرة تردده على لسانه شكرا وثناء ومدحا، إلى تقليده في طريقة المشي أو الكلام، ولربما حتى في الانفعال وما يبدي من مشاعر وأحاسيس وما يتبنى من أفكار؛ كأنما يصدرون من مشكاة واحدة؛ قد يقع هذا أو أكثر وتلك جبلة الإنسان.
التقليد اليوم هو الذي يحرك الناس ويدفعهم إلى اتخاذ مواقف فكرية أو سلوكية وتحديد الشخصية وإثبات الذات دون وعي أو عن قصد، وتلك فطرة لا انفكاك عنها. إلا أن الجهة التي تُقلَد تختلف باختلاف المقلِدين وكل له دوافعه التي تجعله مقلدا لهذا دون ذاك أو لتلك دون غيرها.
فشخصية المرء هي التي تتحكم في طبيعة التقليد فكلما كانت غير مقتنعة بذاتها، إمعة إلى أقصى حد لا تملك قرار نفسها كانت إلى التقليد أقرب وله أقوى.
وأكثر التقليد والتأسي السلبي اليوم منصب على اللباس وقصات الشعر بالدرجة الأولى، وتتلوها عادات وتقاليد مستوحاة من ثقافات وافدة، حيث أصبح الناس يعيشون تحت وطأة الاستلاب والإعجاب بالآخر في مقابل احتقار الذات وازدراء الهوية وكبت الكينونة على أعلى مستوى، الذي يمكن أن نسميه التقليد المجتمعي أو المؤسساتي.
على مستوى الأفراد يعتبر الفنانون بأشكالهم والرياضيون باختلاف هواياتهم هم نجوم الزمن الراهن وعلامات بها يهتدي عميان الهوية في صحارى الانحطاط والإسفاف، وهم كمن قال الشاعر فيهم
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه
ولذلك ترى هواة التقليد اليوم كالريشة في مهب الريح لا يستقرون على أمر ولا تثبتون على قرار، وما أن ترى نوعا من اللباس أو الحلاقة انتشر بين شباب اليوم وحتى في شيبهم إلا واعلم أن هناك من فعلها من نجوم اليوم ليلا، ففعلها ضعاف النفوس وتواصوا بها مصبحين. لأن قلوبهم تعلقت بمن قدمه الإعلام على أنهم رسل الخلاص، وأئمة الهدى، وقائدوا مسيرة الرقي والرفاه، إذ تسلط عليهم الأضواء الكاشفة من كل الجهات.
إن الاقتداء والتأسي مشروع في الدين ولكن ليس بالشكل الذي عليه الناس الآن؛ وإنما يروم الترقي في مدارج الصلاح باقتباس الفضائل ممن هم بها متحلون حتى يتمكن المرء من جمع شتاتها من الذين تفرقت فيهم من الناس. غير أنها اجتمعت في واحد منهم اصطفاه الله واختاره وأمر باتخاذه القدوة والأسوة قال تعالى “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً”، فمن كان متأسيا فليتأس بمَعِين القيم المثلى ومصدرها الزكي محمد صلى الله عليه وسلم، وبمن صار على هديه، واستن بسنته، وليس بمن حاده وشاقه، واختار لنفسه غير سبيله وسبيل من اتبع هداه، فأولئك أئمة الضلال ودعاة الانحراف وقد توعدهم الله بالويل والثبور قال سبحانه “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً”.
فليختر كل واحد منا قدوته وأسوته فالمرء مع من أحب وإن كان كثير من المستلبين اليوم لا يرضون أن تدعوا عليه بأن يحشره الله مع محبيه ونجومه لقرارة في نفسه أنهم ليسوا على شيء ولكن “صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ”.
إن هناك قاعدة حتى مع القدوة الحسنة وقد أصلها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بقوله: “من كان مستنا فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة” (مشكاة المصابيح وقال عنه الشيخ الألباني ضعيف). فإذا كان الاستنان بالقدوة الحسنة التي هي على قيد الحياة فيه حذر فكيف بمن يستن بمن ضل عن سواء الصراط من الأحياء الذين هم على الفتنة قائمون وإليها داعون.
إن منهج الإسلام الرباني والشمولي يضع الأمور في نصابها ويعط لكل ذي حق حقه، والله خالق الخلق أعلم بما يصلح لهم، ولذلك جعل نبراس الأمة ومثالها المحتذى جامعا لكل أوصاف الخير؛ الكل ينهل من معين خُلقه النبيل وفيض سمته الجميل؛ لعلمه تعالى بنفوس خلقه التواقة إلى التقليد والتأسي.
ولو لم يكن ذلك التقليد السلبي من العامة اليوم لما كان هناك انحراف في العقيدة والسلوك والقيم لا سيما وقد غاب القائد الصالح والقدوة الحسنة أو نذر وجوده كالزمن الذي نعيش فيه، حيث تكاثر السوقة والسفهاء وقل أهل الفضل والصفاء الروحي والأخلاقي وتلك مشيئة الله الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *