قراءة نقدية لرؤية الباحث (أبو اللوز) حول الحركات السلفية في المغرب (الحلقة الثامنة) تهمة الحرفية والنصوصية الحنبلية حمّاد القباج

ينقم كثيرون على السلفية أنها تحث على التمسك بالنصوص والمحافظة على ظواهرها في الجانبين العلمي والعملي، وهذه في حد ذاتها محمدة، وهي أجلى صور العمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعده أبدا كتاب الله وسنتي” [رواه مالك في موطئه بلاغا ووصله الحاكم].

ومعلوم أن الأصل هو العمل بالظاهر، وأن التأويل لا يصح إلا بدليل، وهذا مجمع عليه عند العلماء، وإنما أنكروا على الظاهرية إلغاء القياس كدليل من الأدلة الكلية، وآلية ضرورية من آليات الاجتهاد، وهذا الإلغاء غريب عن منهج السلف الصالح الذين تتابعت ردودهم على الظاهرية..
وفي سياق اتهام السلفية بالحرفية والنصوصية يقول عبد الحكيم أبو اللوز وهو يعدد سمات المنهج السلفي كما يتخيلها:
2) تصلب الخطاب:
هناك مبدآن يشكلان منبع هذا التصلب:
– رفض الشرك والإصرار على التوحيد أن يخضع له كل سلوك بشري، بحيث يشكل مبدأ التوحيد الخلفية التي تقاس عليها شرعية كل التصرفات والمواقف والأفعال والمقولات حتى ولو لم تكن بالضرورة دينية. فأي نوع من التفكير والفعل لا ينطلق من التوحيد هو نوع من عبادات الذات. وبذلك تضع السلفية المسلم أمام طريقين لا ثالث لهما فإما أن يكون سلفيا أو لا يكون مسلما بإطلاق.
– الرؤية الصارمة جدا والملتزمة بحرفية القرآن وفق التقليد الحنبلي، والذي يجعل كل شيء يعود إلى منطوق القرآن والسنة.
وبهذا تكون السلفية محاولة نشطة لتكوين أورثدوكسية واحدة لكافة السكان، ..نوع من الإصرار على تأسيس مذهب فقهي متجانس مع العقيدة، وثورة على التقاليد الدينية الكلاسيكية واعتماد الإسلام النصوصي الذي يحيل على القرآن والسنة كمناط كل تفكير وسلوك) اهـ (1).
وقد اشتمل هذا الكلام على أنواع من صور الجهل المركب:
1- وليت شعري كيف تجرأ الباحث على جعل “رفض الشرك والإصرار على التوحيد” مبدأ من مبادئ تصلب الخطاب السلفي؟!
لو كان يدري ما يقول لعلم أن هذا الاتهام ينطبق على القرآن نفسه الذي استفاضت آيه برفض الشرك بل الزجر عنه، والتركيز بشكل قوي وكبير على إقامة التوحيد.
2- لا يعرف في المنهاج السلفي ولم يقل واحد من علماء السلفيين بالاقتصار في دلالات النصوص على منطوقها، بل يقرون بأن الكلام -ومنه النص الشرعي- له منطوق ومفهوم ونص وظاهر وإشارة …إلـخ
وقد علم أبو اللوز إبان تجسسه على السلفيين أن من المصادر المعتمدة عندهم؛ كتاب إعلام الموقعين للإمام ابن القيم، وهو من أحسن من أصل مبدأ الاعتبار بمعاني النصوص مع تصويب الأخذ بالظاهر، كما علم أن السلفيين عندهم عناية خاصة بعلم أصول الفقه الذي يضبط التوازن في عملية الاستنباط بين الألفاظ والمعاني، والذي أكد علماؤه كما قلت على أن الأصل هو الأخذ بالظاهر وإعماله، وأن صرف اللفظ عن ظاهره (التأويل)، أو إلحاق الفروع المستجدة به (القياس)، أن لذلك كله ضوابطه وآلياته المحكمة والمبينة في ذلك العلم.
3- أما تهمة التقليد الحنبلي فشنشنة نعرفها من أخزم؛ وقد أشرت في كتابي السلفية في المغرب إلى النسبة بين السلفية والمذاهب الأربعة، ووضحت أن الأصول العامة لهذه المذاهب مشتركة، ومع ذلك لكل مذهب بعض مناطات الاستنباط التي تميزه؛ وإذا كان مذهب أحمد بن حنبل معروفا بالارتكاز على النصوص والآثار فإن مذهب مالك لا يقل عنه أبدا في هذا الباب، وإنما زاد مالك مآخذ في الاستدلال لا توجد عند أحمد، كما أن فقهاء المالكية توسعوا في مآخذ الاجتهاد بما لم يحصل من فقهاء الحنابلة، والاختلاف النوعي بين مدرستي مالك وأحمد من جهة، ومدرستي أبي حنيفة والشافعي من جهة أخرى في إعمال النص، راجع بالأساس إلى انتشار الرواية في بيئة الأولَين أكثر من الآخرَين، ولذلك كثر الاجتهاد وإعمال القياس عند أبي حنيفة أكثر من غيره، أما الشافعي فلم يكن في الرواية كمالك وأحمد لكنه كان أكثر احتكاكا بالنصوص من أبي حنيفة.
وما تقدم كله جو علمي لا مجال لاتهام أهله بما هم منه براء؛ كالقدح الذي تعرض له أبو حنيفة قديما، وذاك الذي يتعرض له مذهب أحمد حديثا.
وسبب ذلك في الحقيقة الجهل بمسالك العلم وأصول العلماء التي ترجع إلى أصول المنهاج السلفي وتتأسس عليه، وهو ما يجعل السلفي متبعا للعلماء مستفيدا منهم، معظما لهم جميعا مالكية كانوا أو حنابلة أو غيرهم، ولا يميز بينهم إلا فيما يتعلق بالاتباع والدليل؛ فلا ينتقي المذهب الذي يهواه، ولا يتعصب لمذهب على حساب آخر، ولا يقدح في مذهب تعصبا وحمية، بل يقول: هؤلاء من أئمة الإسلام وكل يؤخذ من قوله ويترك.
كما أن السلفيين في المغرب يعنون عناية خاصة بمذهب مالك وعلمه لكونه مذهبا متبعا في بلادهم.
وإن كان للسلفيين تمييز لأحمد بن حنبل على غيره من الأئمة، فإنما هو فيما يتعلق ببروزه أيام الفتنة وكونه كتب له أن يواجه طاغوت الفكر الفلسفي والمد الاعتزالي في أوج قوته وتمكنه، ولو كان غيره في هذه الفترة كمالك والشافعي لكان لهما الموقف نفسه.
4- وفي الفقرة المنتقدة من كلام الباحث أبو اللوز مآخذ أخرى سبق بيانها في الحلقة الأولى ..
وأود في ختام هذه الحلقة أن أوضح بأن اتهام منهاج السلف بالحرفية والجمود النصي أمر قديم وقع في مثله المعتزلة وأشباههم حين نبزوا أهل السنة والحديث بالجهل بمعاني النصوص، وجعلوا أخطاء بعض الرواة مطية للحكم على منهاج أهل الحديث وعلى علمائهم بذلك الحكم الجائر، وتجد توثيق ذلك مع الرد عليه عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم، والخطيب البغدادي في كتابيه: (الفقيه والمتفقه)، و(شرف أصحاب الحديث)، ولابن قتيبة صولات في الموضوع.
وهاهو أبو اللوز يعيد الكرة ويعمق الجرة باتهاماته الجزافية: (رؤية صارمة جدا.. التزام بحرفية القرآن.. التقليد الحنبلي.. كل شيء يعود إلى منطوق القرآن والسنة.. تكوين أورثدوكسية.. الإسلام النصوصي..) إلخ.
وللحديث بقية إن شاء الله
تنبيه:
كنت ذكرت في الحلقة الماضية أن السلفية لا تعترض على الخصوصية المغربية المتمثلة في عقد الأشعري وفقه مالك وسلوك الجنيد، وأحلت في معرفة معنى ذلك على مقالة (نحو تمسك صادق بالثوابت الدينية)، ونظرا لتعذر الوقوف على هذه المقالة على بعض القراء، فقد طلبت من رئيس التحرير الموقر نشر تلك المقالة في هذا العدد.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] السلفية التقليدية والسلفية الجهادية؛ أية علاقة؟ دفاتر وجهة نظر 15 / ص. 113

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *