خير القرن قرنه يا بليد عبد المغيث موحد

لو أن قوى الاستكبار تريد حقا وفعلا إقرار الحقوق وإشاعة السلم والعدالة الاجتماعية والإنصاف الكوني خارج دائرة نفوذها الإقليمي؛ لكانت أعادت جيوشها الجرارة من الجغرافيا المستباحة؛ وردت المظالم للأقليات المسحوقة، لكان أن قابلنا نحن معشر المغلوبين صنيعها المحمود هذا بكل ارتياح واستكانة؛ ولحمدنا لها هذا التوجه قبل أن تحمده الطغمة المستغربة؛ والسخائم المهجنة التي أصابها الافتتان بمدنية الصقيع بأنواع من النفور وأضراب من الجحود من ذلك الانتساب الذي انتشل أسلافها من ظلامية الجاهلية؛ وجعلها تعانق موعدها مع الامتثال الذي رفع أسهمها في بورصة التعامل الإقليمي والتعارف الحضاري؛ مع الإبقاء على معالم الندية أمام جبروت المارد الأبيض.
ذلك المارد الذي ومهما رفع من الشعارات؛ ومهما ادعى من إنصاف وعدالة؛ فإنه يبقى على مستوى الفعل والواقع والسلوك غولا خرافي النهم؛ تغذى ولا يزال يتغذى على لحوم جنس ونوع الأقلية؛ وذلك بعدما أو كلما تسنى له تهجينها وتحييدها عبر دفعها للعيش خارج محيط مدنيته الآخذة في زخرفها الحداثي القشيب، تشارك الكواسر والضواري بدائية الحياة وضنك العيش الذي لم يتجاوز عتبة الأصل الضارب في طنب التاريخ الإنساني.
ولسنا هنا في حاجة إلى أن نذكر حملة لواء تقرير المصير الهوياتي والتمايز النعراتي بالحالة المزرية بل والإبادة المسلطة على رقاب الكثير من الهنود الحمر والأبورجين والإسكيمو في دائرة سلطان الذين أذهلونا وأذهلوهم في باب التنظير والتقنين؛ مع حالة السبق في ذلك لحقوق الإنسان؛ وحقوق الحيوان؛ وحقوق الطفل والمرأة والسجين والشواذ؛ وحقوق الأقليات في تقرير مصيرها الذي لا يخرج عن كونه دعوة جهورية إلى الانفصال وتقسيم المقسم؛ وتفتيت المفتت؛ على شواكل وفواصل يستوعبها مقاس حافر جندي البحرية الأمريكية، وتتبناها نخبة محلية ذات نزعة شوفينية؛ يصب سيل كرها وسائل مكرها في مستنقع الفرقة والتنازع الذي مفضاه إلى التباغض فالتناحر فالفشل فذهاب ريح الكل المتراص.
وهكذا وبينما يرى كل من ليس على قلبه وبصره غشاوة في هذا الطرح وتجلياته حالا ومآلا أنه طرح لا يرعى عدلا ولا يكفكف شرا ولا ينتج خيرا؛ وربما ضمن مصالح مستعمر الأمس ووطد أطماعه؛ لا يزال الكثير من بني الجلدة من بني فخدة سكان المغرب الأوائل والأصليين والأقدمين يبحث في ثنايا هذا الطرح الكاذب جاهدا؛ كي يأخذ وعدا بلفوريا آخر يعيد لعصيد مجد كسيلة التليد؛ وتاريخ شيشونغ المجيد، مجد أسطوري وتاريخ خرافي لا يعدو أن يكون من باب إعمال المصالح التي يلهت بها هؤلاء المستغربون.
انتحار ثقافي ووأد نسل قبلي في جبانة المجهول السرابي؛ وعلى الذين يهرولون في غير هذا الصوب والوجهة ويتشدقون بسمو الانتساب الإنساني الكوني على الانتساب الإسلامي المحمود؛ أن يفسروا لنا ولو بشح دليل ونضب معلومة؛ تفضيلهم للحرف الفينيقي على الحرف العربي الأصيل؛ الذي يرميه بعضهم في مزايدة خاطئة كاذبة بأنه حرف آرمي، وهو إقصاء يجب أن يفهم منه أمر وحيد ذلك هو أن هذه النخبة التي تتصدر المجالس وتعتلي المنابر لتتكلم باسم الأمازيغ المسلمين بغير وكالة مفوضة وبغير إذن ولو مشروط؛ همّ وجودها وغاية صمودها وكبير أملها؛ هو خلق عملية سلخ يتم بموجبها فصل الأمازيغي عن دينه الذي ارتضاه، ونافح عنه ودافع على حماه بالقلم والرمح والسنان، بل وكان له الفضل الذي لا ينكره إلا أعمى البصيرة في نشر هذا الدين؛ وتقديم الخدمة تلو الخدمة في مجال الدعوة، بل الأكثر من هذا أنه قد أتى يوم من تاريخ هذه الأمة كان فيه العرب العاربة يشدون الرحال على كل ضامر ومن كل فج عميق ليأخذوا أدبيات وفنون لغة الضاد من علماء الأمازيغ وأعلامهم الذين خلد التاريخ ذكر مناقبهم في هذا الباب.
ولسنا مطالبين أن نحيل هذا الرعيل الماسخ الذي تنكر لتاريخه وفضل الارتماء في أحضان المجهول إلى بطون أمهات كتب التاريخ المعاصر؛ ليقرأ عن تفاصيل خدمة أسلافه في الأمر السالف ذكره وكتب التاريخ الإسلامي عموما ليقف على حجم الفضل الذي قدمته الأقليات لهذا الدين العظيم من خلال التبحر في علومه؛ بل وتنقيته من شوائب كل دخيل يقدح في صفاء عقيدته واعتدال أحكام شريعته الغراء.
وهنا نستدرك لنجعل الكلام في سياقه منبهين على أن هذا كان يوم كانت الأمة معافاة متماسكة متراصة كأنها جسد واحد؛ أما اليوم وقد استفحل المرض وعمّ الوهن وتداعى الأكلة فإن هذه الأقليات قد انقسمت بعض خلاياها انقساما غير محمود؛ وشكلت أوراما سرطانية تريد أن تردي الجسد المتراص وتنال من تماسكه وأنى لها ذلك فالأمة وإن مرضت أو نامت فبعيد أن تموت؛ متى هي ما استجابت لأمر الصادق المصدوق الذي أمر بعدما أخبر قائلا:
“ما أنزل الله من داء إلا وجعل له الدواء ألا فتداووا عباد الله” وقال أيضا موصيا “إذا قام أحدكم من ليله فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث فإنه لا يدري أين باتت”.
ونحن يا رسول الله كما نعرف دواءنا؛ الذي لن يكون إلا كتاب ربنا وسنة نبينا وتراث سلفنا الصالح؛ ندري أين باتت أيدي بعض العابثيين المترفين؛ وندري أنها وإن تنبهت من سباتها وبياتها فهي لا تغمس ولا تتوضأ؛ بل تتأبط شرها وأمراضها المعدية لتكحها في محيطنا باسم الحرية والحداثة وحق تقرير المصير باسم الشعوب الأصيلة، واسترجاع كل ما سلبه الغازي العربي الإسلامي!
ولا شك أنها كحات صنعها ريح الاستغراب في صدور أنهكها التعب واللهت؛ كما بارك صدورها بغير انقطاع ولا أمل شفاء الغرب الحاقد الذي تملكنا أمره في يوم سالف؛ وحولنا وجهته رأفة ورحمة به من التثليث إلى التوحيد، فلما عادت له ساعة دولة نراه اليوم على غير استحياء يصنع ما يصنع، فكان من أكبر مكر صنيعه أن يوجد من بيننا الأحمد البليد الذي غمس يده في طهورنا ملوثا أن استطاع مطهرنا بنجاسة معنوية من قبيل قوله وهو يتحدث عن خير القرون قائلا: “اللحظات التي تصور على أنها عصر ذهبي للإسلام والتي هي مرحلة النبوة والخلفاء الراشدين؛ كانت أيضا مرحلة حروب فظيعة واقتتال شنيع وأحداث مهولة؛ ولم تكن مرحلة سلم وحضارة وازدهار؛ بل إن الحضارة لن تبدأ إلا خلال القرن الثاني الهجري بعد أن تم نقل التراث الإغريقي واللاتيني والسرياني إلى العربية وهضمه بالتدريج والتفاعل مع الحضارات الفارسية والهندية واليونانية واللاتينية، إذا كان المشكل في المسلمين وليس في الإسلام فلماذا نقدس أشخاصا أخطئوا منذ أربعة عشر قرنا ومازلنا نجني اليوم أخطائهم؟”.
وبعد هذا الكلام لا نملك إلا أن نرجع إلى ذلك الإقصاء الذي تم بموجبه تفضيل حرف فينيقي تاريخية كينونته لا يستمدها من مضان التاريخ المعتمدة كونا على حد تعبير عصيد؛ بل كل تجلياته وجدت في كهوف ومغارات لا تلجها أشعة الشمس إلا لماما بتزاور يمين وشمال على حرف عربي مبين؛ أكل من خيره الكثير؛ وأناب لغيره كل جاحد فقير يريد أن يحول بين خلف الأمازيغ وتراث سلفهم الذي سطره لهم علماؤهم وأعلامهم بحرف عربي مبين؛ ولهجة أمازيغية لا لشيء إلا لرفع الجهالة عنهم؛ وإلباسهم حلة الإسلام؛ وإقرار الحجة؛ ورفع المعذرة تقربا إلى الله.
ولعل القوم يهتدون وماذا بعد الهداية إلى الغي والضلال المبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *