خذ ما شئت، واختر أيّها شئت من أنواع وأصناف وأضراب ومسميات وعناوين الإدارات العمومية بالمملكة، ثم زرها مرتفقا أو على سبيل الفضول، ثم أرسل البصر الكرّة والكرتين، ينقلب إليك مقتنعا مشبعا شبعانا حد اليقين أن أغلب عُمّار هذه الإدارة أو تلك هن نساء موظفات مغربيات، فلربما بلغ النصاب وتجاوز الثلاثة أرباع، إذ بات الذكور الموظفون وسط هذا التقصّف النسائي داخل مكاتب وأروقة شتى الإدارات العمومية المغربية في غربة وإغراب ودروشة عدد، ولا شك أنه إرسال يرد البصر ويحيل على استفهام محموم يبحث في ماهية الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا السيل الدفق المسترسل في غير كف ولا اكتفاء من حزمة المطالب وضغث الاحتجاجات المتعالي ضجيجها هنا وهناك وهنالك، ضجيج لا يكلّ أهله ولا تمل جوقته، يمرر في غير انقطاع، يقدِّم بين يديه تباكيا ملحون الأنين، يؤبد مشروع المظلومية التي ما فتئت سخائم النسويات تتدثر بأسماله الخادعة، ولعلها بل الأكيد أنّها صارت مشاريع تكرس هذا الظلم وترمي بأوزاره الثقيلة على ذمة الرجل بعلًا وأبًا، جاعلة إياه ظالما غاشما متسلِّطا، ولسنا هاهنا نستدرك في غمط رجولي أو بطر ذكوري على هذه المكتسبات النسائية ذات الغُرم والغُنم، وإنما نودّ أن ننبِّه في استفزاز يجعل الراكبين صهوة الاحتجاج النسائي الصلف يرون ثم يقرون ويعترفون بِكَمِّ وكيف هذا المكتسب على صفيح مرآة الواقع، وتحت لهيب أشعة النيون الكاشفة الفاضحة للأرقام والإحصائيات المتكثم على نسبها، ولا شك أنها نسب لها وزنها ولها تداعياتها وتمظهراتها في سوق السعي والجهد والبلاء والشقاء الذكوري واسأل العادِّين.
ولنغرد هذه المرة بعيدا عن غُنم المكتسب الأنثوي في هذا المقام، لنفصح عن كبريات الأوراش التي تتمترس على حياضها التكثلات النسائية في مجتمعنا المغربي دفعًا وطلبا، بل في سائر المجتمعات العربية الإسلامية، إذ الحرب النسائية مطردة الاشتعال على طول جغرافيتنا الإسلامية، فنجدها متمثلة الحلقات في المواجهة والتصدي لما تعتبره ظلم اجتماعي واقع من نصوص الوحي على شخصها وجنابها جنسا ونوعا في قضايا الإرث والتعدّد وشعيرتي الحجاب والنقاب والتعليم والقوامة والطلاق والتطليق والقضاء وشغل الوظائف العليا…
إن سهام هذا الخبط العشوائي ما فتئت توجه في صلف وحِدّة كالحة إلى نصوص الوحي التي كانت قد أبادت كل مظاهر الظلم والجاهلية ومطارق الذكورية التي صوّرها القرآن الكريم ونسف ضوابطها الموغلة في سوء الحكم كما أشر مقطع الآية اللاحق على مطلعها السابق من نفس السياق من سورة النحل في قوله تعالى:”وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون“، وقد حكى فاروق الأمة مصوِّرا هذا المشهد المأساوي وما تلاه من انفراج حقوقي حيث قال رضي الله عنه:”والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم“، وفي رواية ثانية عنه رضي الله عنه أنه قال:”كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله، رأينا لهن بذلك علينا حقا“، وقد قال عليه الصلاة والسلام مؤسسا ومقررا بصيغة الحصر لهذا الامتياز وهذه الحياة النبيلة التي كفلها الإسلام لنصف المجتمع الثاني ورئته المعطلة زمن الجاهلية الأولى:”إنما النساء شقائق الرجال“، وقال عليه الصلاة والسلام في ما حكته عنه الصدّيقة عائشة أم المؤمنين:”من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كنّ له سترًا من النار” وأعظم به من جزاء وجميل ثواب!!!
لقد أنزل الإسلام العظيم، المجحود الشكر، والمنكور الحمد، المرأة المنزلة الرفيعة اللائقة بها، إنزال جعل الإمام الحافظ الذهبي يشهد ويعدل في غير تجريح لإنتاجها ومشاركتها العلمية النوعية في بناء صرح الموروث الحديثي الشريف رواية ودراية قائلا:”لم يؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث“، وقد عضد هذه الشهادة بعطف مأثور عن الإمام الشوكاني حيث صرح قائلا:”لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة، فكم من سُنة قد تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة”
ولقد جاء في سيرهن ما يفيد بالقطع هذه المشاركة ذات الذِّكر والأثر، بل نقل أهل السير ما يشهد لاستدراكها في هذا المقام على شقيقها الرجل، فعن عبيد الله بن عمير قال:”بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه والسلام من إناء واحد ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات“، وقد صنّف الإمام بدر الدين الزركشي مؤلفا قصر فيه الكلام وأورده على ما تفرّدت به من استدراكات الصديقة بنت الصديق عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام على صحابته رضي الله عنهم أجمعين سماه: “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”، وقد كان من جملة المستدرك عليهم من الأعلام الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وما أدراك ما هم؟ !!…
إن رصيد النمذجة في تراثنا الإسلامي يبقى مليئًا بما يرد البصر في هذا الخصوص، ولكنه رصيد أُفرغ على كمِّه الطيّب، وكيفه المبارك، قطر الحقد وصُهارة الجحود فما استطاعت الأجيال له نقبا ولا اسطاعت أن تظهره لمعشر الحائرات المحتاجات لترياقه النافع البديع.
إن هذه الحركات النسوية المدخونة المقاصد، يجزم العاقل بل العاقلة الحصيفة أنها تكثلات لا تمثل الانشغالات الرئيسة من تطلعات النساء المسلمات المغربيات، بل تضرب صفحا وتحيد عن تحمل مسؤولية التعاطي مع كبريات الأوراش الاجتماعية التي باتت تشكل غولا متوحشا يبتلع يوما بعد يوم الآمال والأحلام النسائية على الحق والصدق، وليس التسليم بهذا أو البوح بإجمالاته من باب الرجم بالغيب، بل لقد بات الكل يدرك أن هذا الفصيل صار يغرد بعيدا ويحمل في ثنايا مطالبه ما يشط به ويجعله خارج السياق، إذ لم يؤثر عن الأسوياء من الحرائر ثيبات أو أبكارا الخوض في مطلب ومرغب الوقوع في فاحشة الخنا تحت طائلة تلبية الحاجات الحميمية للجسد خارج دائرة المشروع، فالحرة كانت ولا تزال ولم تزل تجوع ولا تأكل بثديها، ولست أدري ولا أعرف ازدراءً لكيان المرأة، وسطوًا على حريتها كهذا التخرص الذميم والقصد اللئيم، إنه انتصار لاستغراب جائر، واستلاب فاجر، يجعل المرأة سلعة مبتذلة، وينتقل بها من درجة عيشها لحريتها الحقيقية إلى دركة الحرية إلى الوصول إليها، ومن ثم افتراسها في مأمن من منطق المحاسبة، وتهارش الذئاب اللئام على موائد أخذها مسافحة مخادنة، إنها عودة لوأد نراه أدهى وأمر من وأد الجاهلية الأولى، ومجانبة فجة للوظيفة الشريفة التي ترتبط بها حياة هذه العفيفة كما رسمها لها الإسلام بقيد عزة وشرط كرامة…
إننا لا نملك إلا أن نتحدى هذه السخائم أن يأتين من الإسلام كتابا وسنة بما يحجر على واسع المرأة ويحول بينها وبين الخوض في غمار الحياة الطيبة جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل، تشهد بمعيته معارك البناء، وتنشد معالي المطالب وتبني جسور التنمية في مجتمعها المحافظ المسالم بضوابط تكفل لها النجاة، وتجنبها الوقوع ضحية في أتون زيغ الشهوات وضلال الشبهات…
إن مبلغي من العلم في شريعتنا الغراء أنها خلت وبرئت ذمتها النصوصية من أثر صحيح النسبة يحرم على الأنثى تعليما، أو يمنعها من الذهاب إلى مسجد أوجامعة أومستشفى عابدة وعاملة وطالبة ومرتفقة، وإنما هي تهم صافقة ومزايدات نافقة يدمغ باطلها الحق فيذهب ريحها كما يذهب زبدها الغثائي جفاء.
إن ثمة أوراش يحكي فيها منطق الأرقام حجم المأساة، وجِرم المعاناة، وجُرم المحاباة، وهي أوراش للأسف لا يحوم هذا الفصيل النسائي الحداثي حول حماها، بل ما فتئ يزوِّد فتنتها الهالكة في عبث بالضحية تلو الأخرى، مع أنها أوراش تظل في دائرة المقاربة العلاجية أولى من غيرها، بل يبدو ما دونها وغيرها مما نجد النضال النسوي الحداثي حفيا بمواضيعها مجرد نزق وانحراف جلي عن حمل أمانة رعاية حقوق المرأة وصيانة كيانها الخيِّر العزيز، ولنا أن نتساءل عن حجم الانشغال وكفل التعاطي في برنامج وأجندات كدح هذا التجمع الحداثي لنسوة المدينة مع ظاهرة تغوّل نسبة الطلاق الآخذة في الارتفاع والتصوّل في شوارعنا وداخل أسرنا وبيوتنا يوما بعد يوم، وعن ذلك الطابور الضارب في الطول والعرض من نسبة العنوسة في صفوف المغربيات البالغات العاقلات التي أوشكن على فقد امتياز الخصوبة، ثم للمنصف أن يقارنها مع نسب التعدّد المتدنية والمنتشرة في البوادي لا المدن، فيطفق متسائلا في سدارة وتعجب عن سر هذا التباكي الذي يواجه به هذا الأخير، وإعلان الزغاريد وراء كل حالة طلاق تقع بعذر أو بغيره.
إن ثمة اختلال يلوح في الأفق عند التأمل في طبيعة هذه المعادلات الفاقدة لتوازنها على المستوى الاجتماعي، يردفها ولابد الاستفسار تلو الاستفسار عن وجهة السير ونهاية المسير، والاستفهام تلو الاستفهام عن مآلات هذا الركز النسائي الحائف، اللاهت بأتباعه وراء سرابه الزائف.
ولست أجد لهذا الختل النسائي في ثوبه الحداثي وطيفه المدني المجافي من جواب يشفي العليل ويروي الغليل سوى قول الله جل جلاله في محكم كتابه من سورة النساء:”والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما”.