شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

المقدمة الثالثة عشرة
في أن كل أصل علمي إنما يصح اتخاذه إماما على كل حال إذا كان الحكم والعمل به مطردا في الواقع ومجاري العادات، فإن تخلف عنه هذا الشرط فإنه لا يتخذ أصلا ولا قاعدة شرعية.
قال الناظم:
وأي أصل من أصول العلم قد ***يعـد في الفعـل إمـامـا يعتـمـد
ينظر للمعنـى الذي قد احتمـل ***فإن يكن يجري به ذاك العمل
على مجـاري مثلـه في العـادة **صـح فـي الاقتـضـاء للإفـادة
وإن يـكـن فيـه انخــرام ركـن **أو نقص شرط فهو غير مغن
«وأي أصل من أصول العلم قد يعد» في ظاهر أمره «في الفعل» أي العمل «إماما» ودليلا «يعتمد» عليه في ذلك الفعل -العمل-.
فإنه لأجل اتخاذه إماما وأصلا شرعيا في ذلك ومعرفة جريان ذا الحكم عليه «ينظر للمعنى» أي للحكم المقتضى «الذي قد احتمل» أي احتمله ذاك الأصل ودل عليه بظاهره «فإن يكن يجري به» أي بما يقتضيه «ذاك العمل» الذي اقتضاه «على مجاري» جمع مجرى ظرف مكان، محل الجري -والمراد بالمجاري هنا الطرق- أي على طرق «مثله» من الأصول سواء كانت عقدية أو فقهية «في العادة» التي تقررت على أن الأصول المعتمدة يمتنع أن يتخلف مقتضاها، فإن كان كذلك «صح» العمل والأخذ به «في الاقتضاء» والحكم الذي يدل عليه، وذلك «للإفادة» التي تجنى منه وتؤخذ.
«وإن يكن» قد حصل «فيه» أي في ذلك الأصل «انخرام» سقوط «ركن» من الأركان التي يكون بها حكمه مطردا في الجزئيات المنظومة تحته «أو نقص شرط» فيه يتوقف على وجوده كونه أصلا معتمدا «فهو» أي ذاك الأصل «غير مغن» أي غير مفيد، فلا يصح اتخاده أصلا معتمدا في هذه الشريعة الغراء.
وبيان ذلك: «أن العلم المطلوب إنما يراد -بالفرض- لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، سواء كانت تلك الأعمال قلبية، أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا خرجت في المعتاد على وفقه من غير تخلف، فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه؛ وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما، لتخلفه، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا. ومثاله: في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق؛ وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد. فإذﹰاك لأصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة، فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها».(1)
وذاك في مجرى الأساليب يقع **فيـنـبـغـي اعـتـبـاره حـيـث وقــع
كذاك يـرى في الفهـم للأقــوال **وفي الدخـول بعـد في الأعـمــال
وذا الأخيـر عمـدة في المسـألة ***والأصل في المصالح المستعملة
وأصـل الاستحـسـان والبـيــان **لـمـشـكــل الـســنـــة والـقــــرآن
وضمنه الرخصـة منه تقتنـص **فـإنـه الحـاكـم في بـاب الرخـص
«وذاك» التخلف عن مجاري العادات وعدم الاستقامة على سنن الأصول المعتبرة يحصل «في مجرى» يعني في مجاري -مفرده مجرى بضم الميم- أي ما تجري أي تحمل -فالمجاري على هذا المعنى محامل- «الأساليب» طرق الكلام والمراد بها هنا السياق العام -اللواحق والسوابق- «يقع» فإنه قد يعرض في حمال اللفظ على ظاهره ما يفسد جريان الفهم في الأسلوب والسياق الذي به يعلم المراد من ذلك الكلام، وإذا تقرر ذلك «فـ» إنه «ينبغي» يعني يجب «اعتباره» الأسلوب والسياق وبناء الحكم عليه «حيث وقع»، «مثل قوله تعالى: {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} (المائدة: 93) فهذه صيغة عموم تقتضي في ظاهرها دخول كل مطعوم، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط، ومن جملته الخمر، لكن هذا الظاهر يفسد جريان الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر، لأن الله تعالى قال: {ليس على الذين ءامنوا} فكان هذا نقضا للتحريم، فاجتمع الإذن والتحريم معا، فلا يمكن للمكلف امتثال».(2)
«كذاك يرى» يقع هذا التخلف عن الاطراد «في الفهم للأقوال»، «وهذا يجري في مثل قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل للكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله؛ فلا يمكن أن يكون المعنى على ما يصدق الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعي فعليه يجب أن يحمل».(3)
«و» كذلك يقع هذا التخلف «في الدخول بعد» تحصيل العلم المطلوب «في الأعمال» وذلك أن طرد العمل قد يعرض فيه ما يوقع في المشقة والحرج.
«وذا الأخير» وهو عروض هذا التخلف في الأعمال «عمدة في» هذه «المسألة» التي عقدتها هذه المقدمة، وهي المقصود بالذات؛ «و» هي أيضا «الأصل في» اعتماد «المصالح المستعملة» يعني المرسلة، ولو قال المسترسلة لكان أفضل.
«و» هو أيضا «أصل الاستحسان» الذي يقول به بعض أهل العلم، «و» هو كذلك أصل «البيان» الذي يكون «لمشكل السنة والقرآن».
ممن تكلم في ذلك «وضمنه» أي ما ينطوي عليه من حكم ويؤخذ منه «الرخصة» أي أحكامها فإنها «منه تقتنص» أي تؤخذ وتدرك «فإنه» أي ما ذكر من طرح ما يخرج إلى الحرج والمشقة من عموم الدليل وإطلاقه هو الدليل «الحاكم في باب الرخص».
وفي جملة هذا الذي تقدم قال الشاطبي: «وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة، لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا، فإنه غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق. وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح. وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا تدخله».(4)
وقد بدا معنى ذا الأصل وظهر تـأصيـلـه فـيـنـبـغـي أن يـعـتـبــر
وعــدم اعـتـبــاره حـيــث بــدا أوقع أهل الزيغ في مهوى الردى
ومعنى أن الرخص تؤخذ من هذا أنها تنشأ عنه، فإذا تعذر حمل الدليل العام على العموم في العمل، كانت الرخصة مستحبة على ما لا يتعذر فيه ذلك، فكانت مأخوذة من هذا الأصل وهو عدم استمرار العمل بما يفضي إلى الحرج والمشقة من الأدلة العامة والمطلقة، «وقد بدا» أي ظهر «معنى ذا الأصل» ما هو المراد به «وظهر» كذلك «تأصيله» أي كيف وقع تأصيله، وما بني عليه «فينبغي» يعني أنه يجب «أن يعتبر» حكمه ومقتضاه.
«وعدم اعتباره حيث» أي في المحل الذي «بدا» أي ظهر أنه يجب فيه اعتباره والعمل بمقتضاه، «أوقع أهل الزيغ» والضلال، من الفرق المجانبة لسبيل أهل الصراط المستقيم، «في مهوى» أي في مسقط محل السقوط في «الردى» الهلاك.
وذلك لأن تلك الفرق لم تعمل بهذا الأصل وهو الدليل العام -الأصل-، العام والمطلق لا يحملان على ظاهريهما، اللذان هما الاستغراق والشمول، إذا كان ذلك الحمل يوقع في الحرج والمستحيل شرعا وعقلا أو أحدهما، وإنما ذهبت إلى حمل الأدلة العامة والمطلقة على ظواهرها من غير التفات إلى هذا الأصل.
قال الشاطبي في شأن هذا الأصل: «ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية لم يأمن الغلط، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم. كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين».(5)
يتبع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) الموافقات، ج. 1، ص: 70.
-(2) الموافقات، ج. 1، ص: 71.
-(3) الموافقات، ج. 1، ص: 70.
-(4) الموافقات، ج. 1، ص: 71.
-(5) نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *