إننا نقرأ يوميا لعدد هائل من الكُتَّاب والكاتبات عبر صفحاتهم ومدوَّناتهم على شبكات الأنترنيت، ومن خلال مقالاتهم المنشورة وإصداراتهم الورقية والإلكترونية، ولكن نخبة منهم من يحرِّكون مشاعر القراء، ويشحذون همتهم للتفكير، ويدفعونهم دفعا حثيثا يهزُّ كيانهم ويحتويهم بالكامل، وقليلون منهم من يأسرونهم بسحر أسلوبهم، وقوة فصاحتهم وبيانهم وبلاغتهم، وأصالة لغتهم، وسلاسة تعبيرهم، وغزارة إنتاجهم الفكري..
وقليلون منهم من يخلِّدون بأقلامهم بصمات قوية ومؤثرة تجعل القراء يقبلون على كتاباتهم بشوق وشغف فريد، واهتمام بالغ يغيِّر مفاهيمهم ونظرياتهم الخاطئة، ويصححون أفكارهم القديمة، وينفضون الغبار عن ذاكرتهم الخاملة، فتنشط أذهانهم لنشاط أفكارهم ومتانة حروفهم وكلماتهم، ويتأملون فيما يقرؤونه ويغوصون في أعماقه بإحساس قوي، فيشعرون أنه يحمل خطابا يلامس أرواحهم، وقريبا من أغاريد وجدانهم، وموجَّها إلى بواطنهم يحرك خلجاتهم، ويسبح في دواخلهم، ويلج منافذهم وأبوابهم المغلقة، ويبعث ضميرهم الإنساني والذوقي والأخلاقي، ويشعرون في كل مرة يكررون خلالها القراءة برؤية مختلفة ، وفهم وإحساس يتجدد وينبعث في صورة ومعنى مختلف عن سابقه ..
وإن مثل هؤلاء الكُتَّاب يجعلون القراء يقفون احتراما لهتاف أقلامهم، التي تبدع وتنسج أفكارها ومشاعرها، وتولد ثقافة نابضة ومتحرِّكة، تعلِّمهم كيف يؤسسون لبناء صرح الأدب والثقافة والعلم، وكيف يندفعون في البحث بدافع الحب والحرص، وليس بدافع التسلية وملأ الفراغ، ولا بدافع الرغبة في تجاوز مرحلة الامتحان بتفوق ونجاح .
وإن مثل هؤلاء الكُتَّاب يغرسون بداخل القراء روح الثقافة سلوكا ومعاملات، وليس بهدف جمع وتحصيل معلومات يتلقَّونها ويستقبلونها فحسب، ثم يحفظونها في خزانة ذاكرتهم وحافظتهم، كما يحفظون كتبهم في خزاناتهم، ويرتبونها على رفوف مكتباتهم، حتى يتراكم عليها غبار النسيان.
وإن مثل هؤلاء الكُتَّاب هم نخبة لا تتساوى في المكانة والمرتبة مع من دونهم -وإن كانوا يمتلكون أسلوب التعبير عن أفكارهم، ويتقنون الكثير من فنون الكتابة- لأنهم لا يرتقون قمم تفوقهم وإبداعهم، أو لأنهم لا يمتلكون ما يمتلكونه من أسباب فرض الدهشة والمفاجأة بدون استئذان، والتواصل مع القراء وكسب محبتهم وتقديرهم، والتأثير علي سلوكهم وأقوالهم وأفعالهم..
فليس كل كاتب يحمل روح المبادرة في عرض حلول للمشاكل ومواجهة تحديات ومعضلات العصر، والانتقال بالقارئ والمجتمع نحو آفاق ثقافية متقدمة، تفسح أمامهم مجال الإبداع والابتكار في ممارساتهم الفكرية والذوقية والأخلاقية..
وللأسف إننا ما زلنا نعاني في واقعنا المتأزم من انتشار أقلام تتحرك في حدود ضيقة من التفكير والممارسة، قابعة داخل أبراجها العالية، لا تتعدى كتاباتها القصيرة ورسائلها -الخالية من عمق المعنى وقوة البناء للأسلوب والفكرة- أن تكون أشبه بالوجبات الخفيفة لا تكفي لسدّ جوع وعطش القراء، أو إشباع ذوقهم ومتعة تذوقهم، إلا أنها تملأ فراغ ذاكرتهم والزمن المتبقّي عن مشاهداتهم وممارساتهم لهواياتهم، التي تحكَّمت فيها سلطة وسائل التكنولوجيا الحديثة، وطبيعة الحياة التي صارت مشحونة باهتمامات غير منظمة ولا مفيدة ولا مثمرة ، ومطامح ليست ذات قضية هادفة، أو تحمل رسالة تتقدم بالأجيال في حاضرها ومستقبل أيامها..