هبت نسائم رمضان تحمل المنح والجوائز والمواهب الإلهية لمن تأهب للعمل من أجلها، فأسرعت قلوب كثيرة لتأخذ مكانها على موائد الطاعات عساها تحظى بمنح الحبيب، تتنسم عطر الإيمان وتتذوق حلاوة المناجاة والقرب من المولى، وتتنافس مع النفوس الطيبة في دخول أبواب الطاعات المختلفة.
جاء رمضان بخيره ومنحه فصامت الجوارح فأطاعت ربها، وصامت القلوب فذكرت سيدها، صام العبد بكيانه ووجدانه عن الشهوات والمعاصي، فأنتج له ذلك نورا غمر فؤاده فأصبح وأمسى على نور من ربه.
في غمرة هذا الجو الإيماني يحلو للبعض أن ينغص على العباد راحتهم الإيمانية، ويقلق طمأنينتهم بتحريف الحقائق، وتصوير النور ظلمة، والتشكيك في المسلمات، وإضعاف أثر روح العبادة عند السائر إلى ربه..
فقد كتبت بعض الأقلام المخذولة وأفاضت مدادها في تصوير رمضان وكأنه شهر الغضب والتوتر والتشنجات والشجارات، حيث يضيق التنفس عند الصائم فيصير كثور مزبد محمرة عيناه ينتظر من يشعل فتيل الغليان والهيجان عنده، لينقلب من صائم على الأكل والشرب والجماع، إلى مفطر على الكلام الفاحش البذيء والاعتداء على الضعفاء من عباد الله..، لم تلفت انتباهه جموع المصلين بل توارت عنده وراء ارتفاع الأسعار وغلاء الأسواق بسبب الطلب الذي يتزايد على المأكولات في شهر الصيام..، ولإضفاء الموضوعية على مثل هذا الكلام المستهجن الممجوج يتساءل أحدهم: “هل رمضان شهر الرحمة أم شهر الزحمة؟!”.
لا شك أن خروج البعض عن إدراكه أمرٌ واقع في أيام رمضان، لكن العبد مندوب إلى حسن الخلق.
وإن كان حسن الخلق مندوباً إليه مرغباً فيه بوجه عام، إلا أنه يتأكد في رمضان؛ لأن صيامه أحد التكاليف الشرعية، وواحد من أركان الإسلام الخمسة، فإذا انضم إلى غيره من التكاليف ثقلت على النفس التي تفطر طيلة السنة على التحرر مما يقيدها، ولهذا كانت الإثابة على الابتلاء بهذه التكاليف جزاء على الامتثال للأمر بها، وقد يكون الالتزام بها مظنة أن يثور المكلف بها إذا استثير، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائم عن سوء الخلق، وبيّن أنه لا يخلق به أن يفحش في القول، أو أن يعلو صوته صائحاً عند مخاصمة غيره، أو أن يقابل إيذاء غيره له بالسب أو الشتم أو غيرهما بمثله، وإنما ينبغي عليه إذا قُصِد بهذا الإيذاء أن يقول: “إني امرؤ صائم”، مذكراً نفسه وغيره بما ينبغي أن يتحلى به الصائم من حسن الخلق، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصخَب، فإِن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلهُ فلْيَقُلْ إِني امرؤٌ صَائِم “.
وهذا ما كان عليه رمضان قبل زماننا، كان شهر العبادة ومحطة التزود بالخير لسائر العام، بل هو شهر المحبة وبذل الخير والمعروف، ونشر الابتسامة والكلمة الطيبة..، لكن لما انتشرت المخالفات والمعاصي وصار الباري يعصى جهرة في أيام رمضان، بل كثير من الفواحش تكثر في هذا الشهر كالزنا وشرب المخدرات والشيشا والتسكع في الأسواق والطرقات ومتابعة الأفلام والمسلسلات والفوازير..، انقلب حال الصائم من القدرة على كظم الغيظ والعفو عند المقدرة إلى الانفجار وضيق الصدر والتلفظ بالكلام الفاحش والبذيء.
ثم إنه من الملاحظ أن المتخلق خارج رمضان يزيد خلقه في شهر رمضان، والعكس صحيح، وهل حال المسلمين في رمضان إلا قلوب مشتاقة ودموع مُهراقَة، وأفئدة إلى لقيا ربها جل جلاله مشتاقة، حال المسلمين في رمضان دعاء وصلاة، صدقات وزكاة، حال المؤمنين فيه توبة واستغفار وتهليل وذكر للواحد القهار وسير على منهج وهدي سيد الأخيار صلوات الله وسلامه عليه، فمن كان هذا هديه فرمضان عليه شهر الرحمة ومن حاد عن هذا المسلك فرمضان عنده شهر الزحمة!!