لقد قام أسلافنا الأبرار بضرب أروع مثال في اتباع شرعة الله ومنهاج الواحد القهار، وكان من ثمرة استقامتهم على المنهج الرباني ومن صحة عبوديتهم لله تعالى وتوحيدهم له -جل وعلا-، توفر الأمن والطمأنينة، والموالاة في الله عز وجل، والإخلاص في الأعمال، ورد المظالم، وتأدية الحقوق، والكف عن الظلم، والبعد عن موجبات غضب الرب، وصفاء النفوس، وإحراز الفتوحات، والفوز بالانتصارات. وهذه الامتيازات الكريمة والفضائل العظيمة، كلها من مظاهر التوحيد الخالص، فالتوحيد كله علو وارتفاع، والشرك كله سفول وسقوط.
قال عز وجل: “حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ” الحج:31.
قال ابن القيم عند الآية: “شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء، وشبه تارك الإيمان بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة”.
نعم لقد كان أسلافنا لا يشق لهم غبار في التقوى والزهد والعلم والفقه واستنباط الأحكام والأخذ بأسباب التمكين، المادية منها والمعنوية، على مستوى الأفراد والجماعة، أدركوا فنون إدارة الصراع وبرعوا في دراسة المراحل ومواجهة القوى المضادة، من مشركين ويهود ومنافقين، وقاموا بتفعيل مراسيم الدين فاكتسبوا أخلاقه، وأرسوا معالم حضارته، وتأدبوا بآدابه.
كانوا يفزعون إلى أصوله ساعة النزاع ويتحاكمون إلى بنوده ساعة الاختلاف. مصداقا لقوله عز وجل: “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا”. النساء:59، وقال سبحانه: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ” الشورى:10.
تبصروا بالسنن الكونية في تغيير الشعوب وبناء الدول وأخذوا بها وخبروا فقه التمكين واستوفوا شروطه، فغيروا ما بأنفسهم، وطبقوا الإيمان بكل معانيه، وعبدوا الله عز وجل عبودية شاملة في كل شؤونهم وحاربوا الشرك بكل أشكاله وخفاياه، وزاولوا العمل الصالح بكل أنواعه، وانتظموا جميعا في سياج كله رحمة وكله مودة وكله تصافي وتحاب، نابذين الخلاف وتاركين الفرقة؛ داعين إلى الله عز وجل بالحكمة ومعتصمين بحبله.
لكننا اليوم في فتنة العصر ومحنته، نعيش وَهَنًا يؤرق كل فقيه عالم، ويقض مضجع كل مصلح غيور، ويعكر صفو كل قلب حي. وهَنٌ لن يرفع عنا حتى نرجع إلى ديننا، ونفطن لخطر الحضارة الغازية المحتلة التي كرهت أن لا يُعبدَ في الأرض إلا الله، وشرَّعت من النُّظُم والملل والنحل ما لم يأذن به الله، وما نراه من تضعضع في حقولنا التربوية والتعلمية والصناعية.. وما نراه من ضعف إيماني؛ وجفاف روحي؛ وشتات ذهني؛ وترد في بؤر الغفلة والنكال، ليس إلا نتيجة حتمية لتهاوننا في الإقبال على الله عز وجل، وتساهلنا في تأدية الأمانة المعروضة علينا، وهي الالتزام بقيد العبودية لله عز وجل، وحفظ حقه سبحانه وتعالى علينا.
وعلم الله، أنه ما طمست الحقائق والتصورات، وانتشر فينا أكبر الظلم وفشت فينا أنواع المنكرات؛ إلا بدافع من تأثير المُحتَلين ومن تأثير الحضارة المتسلطة، التي استنفرت في سبيل إغرائنا وصرفنا عن ديننا كل ما في وسعها من هيئات ونوادي ومؤسسات، وحببت إلينا القناطير المقنطرة من المبادئ والخواطر والضلالات والانحرافات حتى تخندقت الطوائف -منا- في مراكبها زمرا، ودخلنا جحرها زرافات ووحدانا، وكادت عاقبة أمرنا أن تكون خسرا، وأثخنتنا بإيديولوجياتها المختلفة وبعلمانيتها المتطرفة؛ فوُجِدَ بين ظهرانينا من دبَّج المقالات وسوَّد المخطوطات وهو يكتب عن فلسفة التغيير، وفلسفة الحياة، وفلسفة الكون، وفلسفة الإنسان.. غير عابئ بوحي السماء.
وفي هذا الوضع لبث أسير الغيّ وسجين المفاهيم العلمانية الصماء جاهلا بفقه التمكين الذي ارتضاه لنا رب العالمين، فغرق وكل من احتذى حذوه من نجباء الحداثة في مستنقعات المادية المقيتة؛ ولإن لم يتداركوا أنفسهم ويلوذوا بكنف فطرة سليمة، تؤهلهم لخوض دراسة علمية نزيهة تهدي إلى الرشد، فستبقى وضعهم على ما هو عليه هذا إن لم يشد.
قال ابن القيم رحمه الله: “والله ما خوفي الذنوب فإنها لعلى طريق الغفرانِ، لكني أخشى انسلاخ القلب عن تحكيم الوحي والقرآنِ”.
فيا تُرى ألم يحن الوقت بعد لكي نقتنع جميعا بالقاعدة الذهبية التي قررها لنا إمام مذهبنا مالك بن أنس؛ ونخطط لتوجهاتنا بناء على مضامينها؛ ونستنير بمقاصدها ومراميها؛ تلك القاعدة التي قررها مالك هي:
“لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.