فتحت وفاة المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري رحمه الله؛ أبواب الكلام حوله على مصارعها؛ ويغلب على ما قيل وكتب في ذلك منحى التعريف بجوانب من سيرته وشخصيته وفكره، مع الإشادة به مفكرا متعمقا وباحثا موسوعيا.
ولا شك أن هذا المنحى سيتعزز ويتعمق أكثر مع توالي الأيام وتوسع الدراسات في ما خلفه الرجل من أفكار وقناعات في مؤلفاته التي تناهز الأربعين كتابا، ومقالاته منذ كان محررا في جريدة العلم عامي 1957/58م، ثم جريدة التحرير -التي كان يديرها عبد الرحمن اليوسفي- انطلاقا من عام 1959م، ، وانتهاء بما كتبه في سلسلة “مواقف” ومجلة “فكر ونقد” اللتين وصلت كل منهما عددها المائة.
أما الكلام في انتقاده والرد عليه، فقد سال فيه مداد كثير منذ عقود، وقد اختلفت مشارب المنتقدين له وانتماءاتهم، كما تنوعت -تبعا لذلك- المناهج المتبعة في نقده، ما بين شرعية وفكرية وفلسفية..
ويبقى مشروع الجابري جديرا بالدراسة والنقد العلمي؛ لأنه تصدى وتفرغ لموضوع حساس وجوهري في كينونة الأمة الإسلامية، ألا وهو تراث الأمة بحمولته العقدية والتربوية والتشريعية والفقهية؛ وذلك وفق منهجية تحليلية فلسفية، تشبه إلى حد كبير منهجية البحث الاستشراقي.
تعرض الجابري لدراسة التراث بصفته الفاعل الأساسي والأبرز في تكوين العقل العربي عبر تاريخ الأمة، وقد لخص أفكاره المتعلقة بهذا الموضوع في كتابه “نحن والتراث” الصادر سنة 1980م، ثم طرح مشروعه في نقد العقل العربي الذي افتتحه بكتاب “تكوين العقل العربي” الصادر عام 1984م ثم ختمه بكتاب “العقل الأخلاقي العربي” الصادر سنة 2001م مرورا بكتابي “بنية العقل العربي” (1986م) و”العقل السياسي العربي” (1990م).
وبعد ذلك حاول تطبيق قواعده وقناعاته المتعلقة بالتراث على تفسير القرآن الكريم وعلومه، من خلال مشروعه المتعلق بفهم القرآن، الذي افتتحه بكتاب “مدخل إلى القرآن الكريم” الصادر عام 2006م، ثم أجزاء ثلاثة في تفسيره صدرت في عامي 2008م و2009م.
وهكذا انتقل إلى تطبيق محصلة دراسته النقدية في موضوع تفسير القرآن، بعد أن طبقها في مجال الفقه وأصوله.
ولا يخفى أن هذا الحِمَى الذي اقتحمه الجابري له حساسيته الخاصة، والمتكلم فيه يحتاج إلى مواصفات معينة، الشيء الذي يدفعنا إلى طرح سؤال مهم وجوهري:
– ما مدى أهلية الجابري لنقد التراث وطرح قواعد مستحدثة لقراءته وفهمه؟
إن هذا السؤال قد يبدو متجاوزا في تصور البعض؛ إلا أنه يبقى سؤالا منطقيا ومحتما حتى على منهج الجابري نفسه؛ الذي أظهر تقديس الموضوعية في البحث، ودعا إلى إخضاع هذا الأخير إلى الضوابط العلمية التي لا تحابي أحدا، ومعلوم أن “مراعاة الأهلية” من أهم ضوابط البحث العلمي الجاد.
وليس من المقبول أن نقر بتجاوز هذا الضابط العلمي والمنطقي بذريعة “منع احتكار التراث من طرف الإسلاميين”، على حد تعبير صديق الجابري؛ كمال عبد اللطيف!
وبعيدا عن الإطراء الذي وصل بالبعض إلى حد وصف الجابري بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي (ولا أدري كيف تجاهلوا المعلم الأول والأعظم حقا وصدقا؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبعيدا عن الغلو في النقد الذي وصل بالبعض إلى حد تكفير الجابري والجزم بمروقه من الدين جملة وتفصيلا.
بعيدا عن ذلك كله؛ نسجل هنا أن الجابري حين تعرض لنقد التراث، ومن خلاله لنقد العقل العربي؛ لم يقتصر في نقده ذلك على العقل الخرافي، أو العقل الارتجالي، أو العقل المتحجر، كما أنه لم يكتف بإنكار ما شاب التراث من أكاذيب الإسرائيليات، وضعيف الروايات، والآراء الفقهية القائمة على التعصب المذهبي ونحو ذلك؛ بل طال نقده المنهاج السلفي الذي استفاضت الأدلة النقلية والعقلية على ضرورة التزامه في فهم النص واستنباط دلالاته ومقاصده بأبعادها الزمانية والسببية والتعليلية.
هذا المنهاج الذي يمثل عاملا أساسيا من عوامل حفظ هذا الدين؛ من جهة أنه يصون جانب التأويل، كما يصون علمُ الحديث جانبَ النقل والرواية، وهذان هما عمودا فهم المصادر التشريعية، وقد خصص لهما العلماء عِلمين جليلين يعتبران من أبرز مظاهر تفوق العقل الإسلامي ونبوغه، وهما علما أصول الفقه ومصطلح الحديث.
إن قواعد التأويل وضوابط الاستنباط التي اتفق عليها علماء السلف حد لا يسوغ تجاوزه وضابط لا يسمح شرعا بتجاهله في كل الاجتهادات التي تهدف لجعل مستلزمات المعاصرة والعصرنة منسجمة مع دلالات النصوص الشرعية، وكل محاولة لتعطيل تلك القواعد والضوابط تمثل تسفيها لعقول مئات العلماء والأئمة الذين اتفقوا على ضرورة التزامها على وجه الشمول والإطلاق.
وهذا الالتزام لا يشكل أبدا عائقا أمام التحرر الإيجابي من قيود الأوهام والخرافات والظلم السياسي، ولا أمام الحرية المسؤولة ودولة الحق والعدل، بقدر ما يصون عقل الأمة من التفلت والاضطراب والفوضى في فهم دينها والعمل به، ومن هذه الفوضى استحداث مناهج للفهم تؤدي في النهاية إلى التملص من القيود الشرعية ومستلزمات مبدأ العبودية، بدافع الهوى المغلف بشعار العقلانية التحررية الديمقراطية؛ فنحافظ على تقديس لفظ النص ورسمه، ونضيع جانبه العملي التطبيقي الذي يخيل إلينا أنه ينافي العقل والحرية والديمقراطية، وهذا عين ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: “ذاك عند أوان ذهاب العلم”، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: “ثكلتك أمك زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!”.
فهذا ما يخشى منه حين يرفع العلم ويقصى العلماء، ليحل في مقابل ذلك الفكر العلماني بجهالاته، والمفكرون بأوهامهم وظنونهم وتصوراتهم المحكومة بأهوائهم ونزعاتهم الذاتية.
ولا أعني هنا الجابري نفسه، بقدر ما أقصد الذين يرفضون التزام “العمل بالنصوص وتطبيق أحكامها”، ويعتبرون ذلك تشددا وجمودا!
إن حل إشكالية التوفيق بين (المحافظة على النص الشرعي والعمل بأحكامه) من جهة، و(مواكبة حركة التطور ومستلزمات المعاصرة) من جهة أخرى؛ ينبغي أن يكون وفق منهجية شرعية تنطلق من أساس تقديس النص (الوحي)، والتزام القواعد المتفق عليها في تأويله وتنزيله، ومتى أخللنا بهذا الواجب انحرفنا عن الموضوعية ومقتضيات البحث العلمي النزيه، ولم نَعْدُ كوننا نخدم الدعوات التي تهدف إلى نبذ الأحكام الشرعية والحياة القائمة على أساس مبدأ العبودية لله رب العالمين.
وأقصد العبودية بمفهومها الشامل الذي يعني تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة من أمور الناس، على مستوى الفرد والأسرة والدولة..
إن تناول الجابري للتراث بهذا الشكل يستوجب على العلماء أن يتأملوا فيه، ويخضعوه لدراسة معمقة تنضبط بالثوابت الشرعية والإجماعات المرعية، وتقوم على أساس الاجتهاد المشروع والمعرفة الدقيقة بالمدارس الفكرية والفلسفية القديمة والحديثة.
وفي انتظار أداء المؤهلين لهذا الواجب الشرعي، يبقى المتأمل في شخص الجابري وفكره في حاجة إلى معرفة جواب الأسئلة التالية:
1- ما مدى الأهلية التي يتمتع بها هذا المفكر لعرض قراءة خاصة للتراث وتفسير القرآن العظيم؟
2- وما هي -بناء على ذلك- حدود معرفته بالفقه وأصوله، والتفسير وعلومه، والحديث وروايته؟
3- ولماذا يصر على الأخطاء المنهجية في بحثه؛ ككونه يجمع بين ثابت الروايات وضعيفها، وصحيح المذاهب وباطلها، حيث يبني –على سبيل المثال- بعض النتائج والخلاصات الجوهرية على مرويات واهية ووقائع لا تثبت تاريخيا، ويمزج بين مناهج وأصول أهل السنة ومناهج أعدائها من الباطنية وغلاة الشيعة والخوارج..إلـخ.
4- ما هي النسبة بين مواقفه السياسية وقناعاته الفكرية؟
5- وأخيرا: إلى أي حد التزم الجابري الموضوعية في مشروعه النقدي، وأين يتجلى تأثره بمبادئ حزبه؟
لا سيما أن عددا من أصحابه شهدوا بأنه لم يتخل قط عن حزبيته، وأنه “كان على تماس دائم مع هموم الحزب ومعضلاته وهو في عز انشغالاته”، على حد تعبير محمد الحبيب الطالب الذي أكد بأن تفرغ الجابري لمشروعه الفكري خدم مبادئ الاتحاديين وبيّأ مفاهيمهم في الحداثة والديمقراطية، وقعدها على مادة تاريخية ومعرفية تحليلية غنية وصلبة ومرنهم على التفكير في الواقع بالواقع لا خارجه ولا فوقه، وعلى التمييز بين الرغبة والحلم الإيديولوجي والسيرورة الواقعية الممكنة…!
وفي سياق هذه الشهادة نقل الطالب عن الجابري أنه أوصى الاتحاديين بالامتلاء بالتراث العربي الإسلامي الذي يحافظ على الهوية ويصونها من الوقوع فريسة الاستيلاب والاختراق!
وظاهر أنه لن يتم الانتفاع بهذه النصيحة إلا إذا كان ذلك الامتلاء وفق منهجية شرعية منضبطة؛ وإلا فما الفرق -في النهاية- بين من يجهر برفض التراث، ومن يهتم به مع تأويله على مراده، ولي عنقه ليتماشى مع مبادئه المسبقة؟…
لقد بين الجابري معنى نصيحته حين قال:
“لقد استنتجت من ذلك تلك القضية الأساس التي أدافع عنها؛ وهي أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعا معاصرًا لنا، وفي الوقت ذاته بالحفاظ له على معاصرته لنفسه ولتاريخيته، حتى نتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ به”اهـ
وهذا اعتراف منه؛ بأنه يعيد قراءة التراث لتجاوزه وليس للعمل به منسجما مع مقتضيات العصرنة، فهو هدم من الداخل تفطن لأهميته الجابري بعد أن فشلت محاولات العلمانيين لهدم التراث عن طريق نقده من خلال الفلسفات والإيديولوجيات المناقضة له..