أن تمتلك القدرة على بسط فكرك أمام الآخر، وأن تخطّ ببنانك ما جادت به قريحتك، فتلك محمدةٌ توجب الشكر،وجرأةٌ تُكسبك ثقة قد تكون في أمسّ الحاجة إليها كي تنطلق في الحياة متحررا من كل القيود… فاكتب.. واكتب.. وغرد في سماء الكلمة وقُم مُلبيّا داعي البوح متأسيّا بهذا النداء الجميل:
“لا تحبسوا مشاعركم في أقفاص صدوركم، إنها ليست تُهَما محكوما عليها بالسجن المؤبد، إنها طيور تعشق التغريد ترنو إلى التحليق”.
فحلّقْ واكتب ولكن بالتي هي أحسن، ولا تأبه لأولئك المثبّطين الذين يقعدون بكل صراط يتربصون بالناس الدوائر، ليصبّوا عليهم جام حقدهم ويثنونهم عن المضي قدما في هذا الدرب، (فما قعد بالكثيرين عن المواصلة إلا تبرّمهم بما يقال، ولو كانوا أقوى همة وأصبرَ نفوسًا لصنعوا من الحجارة التي يقذفون بها سُلما إلى المجد والخلود بدلا من التعثر أو الوقوف) كما قال سلمان العودة.
وتذكر أن الإنسان -كما قيل- (لا يولد ومعه قلم يتدفق كلمات، أو يدٌ تصفف الجُمَل وتصنع الحروف. إنما العادة تعمل على تشكيل شخصية الكاتب). وأن (جميع الروائيين الكبار الرائعين كانوا في أول أمرهم مخربشين متمرّنين، وراحت موهبتهم تتشكل استنادا إلى الممارسة) كما قال ماريو بارغاس.
لكن لا بأس أن تأخذ بنصيحة أرباب هذه الصنعة من أهل البلاغة والبيان، كالجاحظ، وأن تعظّ عليها بنواجذ قلبك، فألق السمع ولا تكن من الغافلين:
إذا أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبّرت خطبة، أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله. فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلفك فلم ترَ طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون مادام ريضا قضيبا. (الريض الذي ابتدأ في رياضته، والقضيب الذي لم يمهر في الرياضة)، أن يحل عندهم محل المتروك. فإذا عاودت أمثال ذلك مرارا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب عنه لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه، أو زهدهم فيه. (البيان التبيين ج1 ص139).
وحين يغدو نتاج إبداعك بين يدي قرائك، فوطّن نفسك على تقبل شتّى القراءات السليمة والسقيمة، المليحة والقبيحة، المشجعة والمحبطة، وبين هذه وتلك، كُنْ أنتَ ولا تجزع وناضل من أجل فكرك مادامَ صائبا، واطرح عنك الكِبر والغرور، واعلم أنّك علمتَ شيئا وغابت عنك أشياء. واجعل قول الشيخ محمد الغزالي نصب عينيك:
“إن أصحاب الحساسية الشديدة بما يقول الناس، الذين يطيرون فرحاً بمدحهم، ويختفون جزعاً من قدحهم، هم بحاجة إلى أن يتحرروا من هذا الوهم، وأن يسكبوا في أعصابهم مقادير ضخمة من البرود وعدم المبالاة، وألا يغترّوا بكلمة ثناء أو هجاء، لو عُرفت دوافعها ووُزنت حقيقتها ما ساوت شيئاً. وهبْها تساوي شيئاً ما، فلماذا يرتفع امرؤ أو ينخفض تبعاً لهذه التعليقات العابرة من أفواه المتسلّين بشؤون الآخرين؟!”