أستاذ ومختص بالبحث في ديداكتيك العلوم الشرعية
من الإنصاف أن نذكر بأعمال العلماء الذين أسهموا في بناء صرح الثقافة الإسلامية، حيث الملفت للنظر أن القارئ حينما يتأمل بعض الكتب التراثية القديمة يجدها تعج بالفوائد الجمة التي يمكن الاستفادة منها، بل وقد يبهرك توجيهها وإرشاداتها، وكأن صاحب الكتاب يعيش بين ظهرانينا.
في ميدان التربية والتعليم، هناك علماء مسلمون وعرب اهتموا بالتأليف في كل ماله علاقة بالتدريس منذ القدم، وهم كثيرون، ولكن أيادي النسيان والتناسي طالتهم، حتى أصحبنا، لا نذكر إلا كتاب إميل لجون جاك روسو، وكتب فرويد وإريكسون وبياجي… وكأن هؤلاء يتوقف عليهم فهم العملية التعليمية التعلمية، وبدونهم لا يمكن استيعابها، ولا الإلمام بجوانبها وحيثياتها.
نحن لا نخفي دور المشترك الإنساني، ولكن يجب علينا رد الاعتبار لتراثنا الإسلامي الذي أعطى مكانة هامة للتعليم والتعلم.
إن المتجول في كتاب” أدب الدنيا والدين” مثلا، للإمام الماوردي، المتوفى سنة 450 هـ، سيجده حتما، قد اعتنى بهذا الأمر أيما اهتمام، حيث خصص بابا بكامله للحديث، عن مكونات العملية التعليمية التعلمية، مع توجيه الكلام، إلى ضرورة الاعتناء بهذه العملية، بل وقبل ذلك تكلم عن العقل، وأنواعه باعتباره الوسيلة التي بدونها لا يمكن تحقيق تعليم ولا تعلم.
العقل عند الإمام الماوردي:
إن العقل عند الإمام الماوردي رحمه الله، هو الوعاء الذي يقدر على استيعاب الحقائق وفهمها، وهو المدرك للأشياء، ومهما اختلفت حدود العقل وتعريفاته، فإن إمامنا حاول أن يجمع بينها، ليخلص في الأخير إلى أن “العقل به تعرف حقائق الأمور“[1] وقال أيضا: “العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعنى“[2].
ولقد تعرض الإمام إلى أن العقل ينقسم إلى نوعين: غرزي ومكتسب، فالغريزي هو العقل الحقيقي، وبه يمتاز الإنسان عن الحيوان، “وأما العقل المكتسب، فهو نتيجة العقل الغريزي وهو نهاية المعرفة، وليس لها حد لأنه ينمو إن استعمل وينقص إن أهمل”[3].
ومن هنا لا عجب أن نذكر بأن الإمام اهتم بالجانب السيكولوجي للمتعلم، المتمثل في وجود عقل سليم يستطيع أن يستقبل المعارف ويُصقل بالتجارب والمهارات، وهذا النوع من العقل هو الذي “ينمو” وتأمل هذه الكلمة رحمك الله، فإن نماء الجانب السيكولوجي بالاحتكاك والممارسة، لم نلتفت إليه، إلا مع جون بياجي النظرية البنائية، مع العلم أنه يحق لنا أن نعود إلى كتب تراثنا لنربط الماضي بالحاضر.
ــ المنهجية ومكونات العملية التعليمية التعلمية عند الإمام الماوردي.
تكلم الإمام الماوردي رحمه الله عن كل مكونات العملية التعليمية التعلمية، من مدرس “عالم” ومؤهلاته المنهجية ومتعلم وشروطه ومحتوى وملاءمته للفئة المستهدفة، وفي مقدمة الباب، تكلم عن شرف العلم ومكانته وفضله، حيث قال: “واعلم أن كل العلوم شريفة، ولكل علم منها فضيلة، والإحاطة بجميعها محال“[4].
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإمام رحمه الله، نبه إلى شرف كل العلوم التي تقدم المساعدة للإنسان، ولم يقصد العلم الشرعي كما زعم البعض، لأن كلامه يقتضي العموم.
الركن الأول: المحتوى
ينبغي اتخاذ منهجية صارمة من أجل تصريف المحتويات وإحراز التعلم والاستفادة، ولذلك نبه الماوردي، إلى الاعتناء بأهم العلوم وإعطاء الأولوية لأفضلها، حيث يقول: “وإذا لم يكن إلى معرفة جميع العلوم سبيل وجب صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها والعناية بأولاها وأفضلها“[5].
وقال في جملة قاصمة لظهر بعض المتغطرسين بتبني المنهجية في تقديم المحتويات، وادعائهم السبق في ذلك، قال رحمه الله: “واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبدأ طالب العلم بأوائلها لينتهي بأواخرها“[6]. وهذا ما يعرف عندنا اليوم بالتدرج ومراعاة المحتوى حسب سن المتعلم، وحاجاته.
الركن الثاني: المتعلم
ينبه الإمام إلى ضرورة التعلم في الصغر، حيث رأى أن ذلك معينا على جودة التحصيل، حيث يكون ذهن المتعلم لا زال متوقدا وقابلا لأن يرصد التعلمات الموجهة له، مع التفاعل معها بكل حيوية ونشاط، قال الإمام: “وربما امتنع الإنسان عن طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره“[7]، وهذا يعني أن الاشتغال بالطلب في الصغر أحسن منه في الكبر، ولكن مع ذلك لم يمنع الإمام أن ينصرف الإنسان إلى طلب العلم، وإن تقدم في العمر، قال الإمام: “ولأن يكون شيخا متعلما خيرا من أن يكون شيخا جاهلا“[8] وهذا هو الذي يسمونه الآن بضرورة التعلم على مدى الحياة.
الفهم أولا:
يرى البيداغوجيون المعاصرون، أن الفهم ينبغي أن يسبق الحفظ، حيث إن الحفظ له علاقة بالشحن الميكانيكي والاسترجاع الذي لا يفضي إلى الإبداع، لكن عند رجوعنا لكتاب الماوردي نجده ركز على الفهم أيضا، وقد قال بالحرف: “وربما اعتنى المتعلم بالحفظ من غير تصور ولا فهم، حتى يصير حافظا لألفاظ المعاني قيما بتلاوتها، وهو لا يتصورها ولا يفهم معناها“[9].
وفي إشارة منه رحمه الله، حمل المسؤولية للطالب أيضا، حيث طالبه، بالبحث عن الأسباب التي تمنع الفهم، قال الإمام: “فينبغي لطالب العلم، أن يكشف عن الأسباب المانعة من فهم المعنى ليسهل الوصول إليه”[10].
ولقد أرجع الماوردي عدم فهم المتعلم إلى موانع كثيرة، منها ما يتعلق بأسلوب المعلم في التعليم، ومنها ما يتعلق بالمتعلم نفسه، وذلك يحتاج إلى بحث قائم بالذات.
اعتبار ذات المتعلم:
أشار الماوردي رحمه الله، إلى أنه لابد للمتعلم من أخذ قسط من الراحة، لأن الدماغ البشري، يتعرض للتعب والعياء والملل، قال الإمام: “ولابد للمكتسب من أوقات استراحة، وأيام عطلة“[11].
شروط التعلم:
حصر البيداغوجيون شروط التعلم في أربعة تقريبا، وهي النضج والرغبة والدافعية ونوعية المحتوى، لكن الماوردي رحمه الله، جمعها في تسعة شروط، هي: العقل، والفطنة، والذكاء، والشهوة، والاكتفاء، والفراغ، وعدم وجود قواطع مذهلة، وطول العمر، والظفر بعالم سمح.
وإذا تأملتها جيدا وجدتها هي عينها، الشروط التي حددها أهل الاختصاص حيث قاموا باختصارها فقط، وجمعها في كليات عامة وشاملة، بل إن الإمام ربما قد تناول جوانب لم يتناولها المتأخرون، كتركيزه على عدم وجود شواغل، تشغل المتعلم، وما أكثرها في حياة المتعلمين المعاصرين.
الركن الثالث: المعلم
تعرض الإمام رحمه الله للكلام عن مواصفات العالم “المعلم”، وأشاد بضرورة الاتصاف بالتواضع والليونة في يد متعلميه، مع مجانبة العجب، وهذا ما يمكن أن يحقق تواصلا جيدا بين المعلم والمتعلم، وأشار إلى مسألة مهمة جدا حيث ذكر أن المعلم ليس من الضرورة أن يحيط بجزئيات ما تخصص فيه، قال رحمه الله: “فإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم سبيل، فلا عار أن يجهل بعضه”[12].
ومما ينبغي الالتفات إليه، هو أن الإمام أكد في مقابل ذلك، عدم جهل بعض الأمور، بكثرة البحث والتنقيب والإكثار من الاطلاع والمطالعة، قال رحمه الله: “ولا يقنع من العلم بما أدرك لأن القناعة فيه زهد“[13].
في الأخير وباختصار شديد، لا يسعنا إلا أن نشيد بمجهودات الإمام الماوردي رحمه الله، ونذكر بعض البيداغوجيين والباحثين في علوم التربية، بأن هذا الإمام، استطاع أن يصور لنا مكونات المثلث البيداغوجي تماما، المعلم، والمتعلم، والمحتوى، وللإشارة، لو رجعنا إلى كتابه، لوجدنا أنه يستعمل نفس المصطلحات تقريبا والتي تتداولها كتب البيداغوجيا في عالمنا العربي، كالتعليم، والتعلم، والمتعلم…إلخ.
——————————————————-
ــ كتاب أدب الدنيا والدين تحقيق الدكتور محمد صباح منشورات دار مكتبة الحياة ص 18 [1]
[12] ــ ص 74