إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه, فمن كانت له بصيرة لم تخف عليه عيوبه, وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يبصر أحدكم القذى (ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ) في عين أخيه (أي: في الإسلام), وينسى الجذع (واحد جذوع النخل) في عينه” (رواه ابن حبان وأبو نعيم وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة).
وفيه أن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه, فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به, ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لتتبع عيوب الناس لكف عن أعراضهم.
قال بعضهم:
عجبت لمن يبكي على موت غيره *** دموعا ولا يبكي على موته دما
وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره *** عظيما وفي عينيه عن عيبه عمى
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه سلم: “طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس” (قال الحافظ في بلوغ المرام: أخرجه البزار بإسناد حسن).
قال الصنعاني رحمه الله في بيان معناه كما في سبل السلام: “طوبى: مصدر من الطيب, أو اسم شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها, والمراد أنها لمن شغله النظر في عيوبه وطلب إزالتها أو الستر عليها عن الإشتغال بذكر عيوب غيره والتعرف لما يصدر منهم من العيوب, وذلك بأن يقدم النظر في عيب نفسه إذا أراد أن يعيب غيره فإنه يجد من نفسه ما يردعه عن ذكر غيره”.
وقال ابن حبان رحمه: “الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس, مع الاشتغال بإصلاح عيوب النفسه, فإن من اشغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه, فكلما اضطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذر عليه ترك عيوب نفسه وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم وأعجز منه من عابهم بما فيه, ومن عاب الناس عابوه”.
قال بعضهم:
المرء إن كان عاقلا ورعا *** أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله *** عن وجع الناس كلهم وجعه
عن مجاهد عن بن عباس رضي الله عنهما قال: “ذكروا رجلا فقال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك”.
قال بعضهم:
يمنعني من عيب غيري الذي *** أعرفه عندي فوق العيب
عيبي لهم بالظن مني لهم *** ولست من عيبي في ريب
إن كان عيبي غاب عنهم فقد أحصى عيوب عالم الغيب
وقيل للربيع بن ختيم رحمه الله ما نراك تغتاب أحدا فقال: “لست عن حالي راضيا حتى أتفرغ لذم الناس”.
وفي عيون الأخبار: لقي زاهد زاهدا فقال له: يا أخي إني لأحبك في الله, قال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله, قال له الأول: لو علمتُ ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
قال بعضهم:
قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه *** ويذكر عيبا في أخيه قد اختفى
ولو كان ذا عقل لما عاب غيره *** وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى
وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: “كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس”.
وقال بكر بن عبد الله: “إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به”.
وسمع أعرابي رجلا يقع في الناس فقال: “قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس, لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها”.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: “سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت زادان المدايني يقول: رأيت أقواما من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم وزالت عنهم تلك العيوب, ورأيت أقواما لم تكن لهم عيوب اشتغلوا بعيوب الناس فصارت لهم عيوبا”.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون كلبا, وإني أكره أن أرى رجلا فارغا ليس في عمل آخرة ولا دنيا”.
وقال أحد السلف: “إني لأرى ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به”.
وقال الحسن: “كانوا يقولون من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به”.
وقد ذكر العلماء جملة من الأسباب التي بها ينظر المرء في عيوب غيره وينسى عيوبه ومن ذلك:
1ـ الغفلة: عن عون بن عبد الله قال: “لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا غفة, قد غفلها عن نفسه”.
ولا يقوم ولا ينتبه العبد من رقدة الغفلة إلا بأربعة أشياء.
أولها: أن يدبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف, والثاني: أن يدبر أمر الآخر بالحرص والتعجيل, والثالث: أن يدبر أمر الدين بالعلم والاجتهاد, والرابع: أن يدبر الخلق بالنصيحة والمداراة.
2ـ العجب: في الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: “ثلاث مهلكات: شح مطاع, وهوى متبه, وإعجاب المرء بنفسه”.
وقال مطرف رحمه الله: “لأن أبيت نائما وأصبح نادما, أحب إلي من أبيت قائما وأصبح معجبا”.
3ـ حب الرياسة: قال الفضيل بن عياض رحمه الله : “ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير”.
4ـ قلة التعقل: فقد كانت العرب قديما تقول العاقل هو المتغافل.
5ـ الفراغ: قال أحد السلف: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
ومن أراد الوقوف على عيب نفسه فله في ذلك أربع طرق كما ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين وهي:
الطريقة الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس يعرفه عيوب النفوس وطرق علاجها وهذا قد عز في هذا الزمان وجوده, فمن وقع فقد وقع بالطبيب الحادق فلا ينبغي أن يفارقه.
الطريقة الثانية: أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا وينصبه رقيبا على نفسه لينبهه على المكروه من أخلاقه وأفعاله فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “رحم الله امرءا أهدى إلينا عيوبنا” إلا أنه عز في هذا الزمان وجود صديق على هذه الصفة لأنه قل في الأصدقائه من يترك المداهن فيخبر بالعيب أو يترك الحسد, وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم.
الطريقة الثالثة: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساوئ, وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفي عنه عيوبه.
الطريقة الرابعة: أن يخالط الناس فكل ما يراه مذموما فيما بينهم يجتنبه.
قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: “ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى”.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه قال لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا”.
وليعلم أنه من وقف عند عيوب نفسه عرف ربه جل وعلا ومن عرف ربه اشتغل به عن غيره.
قال أحد السلف: “من عرف نفسه عرف ربه.
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: “فإنه لو عرف (أي: العبد) ربه بصفات الكمال ونعوث الجلال وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر ولم يغضب لها, ولم يحسد أحدا على ما آتاه الله، فإن الحسد في الحقيقة نوع من معادات الله فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك, فهو مضاد لله في قضائه ومحبته وكرامته ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة لأن ذنبه عن كبر وحسد”.
وفي كتاب حلية الأولياء عن شريك قال: “سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فبكى, فندمت على سؤالي إياه, فرفع رأسه فقال: إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه, ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره”.