المؤشر النبوي للتنمية… مولاي المصطفى البرجاوي

في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات للرفع من قاطرة التنمية في البلدان “المتخلفة”، سعت المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة إلى إصدار جملة من المؤشرات في أفق الدفع بهذه البلدان إلى بر الأمان -على حد زعمها-.. لكن هذه المعايير -جملة وتفصيلا- يعتريها ثغرات وعيوب جمة وتفتقد إلى المصداقية، كما تفتقد إلى أسس متينة في بعدها الروحي، موغلة في المادية الفانية والمتزحزحة…

ونظرا، لما تعيشه بعض بلدان العالم الإسلامي، من خلل كبير في اقتصادها وأمنها الاجتماعي والثقافي والصحي والتعليمي، أحببت أن أتقدم بهذه الورقة، لعلها تفيد في إعادة الأمور إلى نصابها، وتفيق الغافلين من غفوتهم ونزواتهم الشهوانية الطاغية…!!

– المؤشرات الدولية-الوضعية للتنمية:
وقبل الدخول في تفاصيل عرض هذا “المؤشر النبوي”، يكون من الأولى الوقوف عند المحطات التاريخية لهذه المؤشرات:
أـ مقياس مستوى المعيشة: اقترحه “درفنوفسكي” سنة 1966م، في دراسة قام بها لصالح معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية، ويرى أن المستوى المعيشي تحكمه عدة معطيات، كما أن الرفاه والتقدم لا يستند إلى معطى واحد..
ب ـ مقياس المؤشر المركب للتنمية: مؤشر أصدرته منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة سنة 1975م: وهو مؤشر يقوم على تصحيح الوضعيات تبعا لسلم المؤشرات المتعددة.
ج ـ مقياس المستوى المادي للحياة: اعتمده مجلس التنمية الخارجي الأمريكي سنة 1977م: هو معدل لثلاث مؤشرات غير كمية:
ـ نسبة غير الأميين.
ـ معدل الوفيات.
ـ معدل أمل الحياة.
د- مؤشر التنمية البشرية: مؤشر اعتمده برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD سنة 1990م: ويمزج بين ثلاثة مستويات: مستوى الصحة، ومستوى التعليم، ومستوى الدخل الفردي. ويهدف إلى:
– تصنيف الدول وترتيبها عالميا حسب عنايتها بالإنسان.
– تحديد مكامن الضعف الحقيقية قصد التنبيه إلى خطورتها ووضع (الفقر البشري) ضمن الأولويات.
– ويضم المؤشر العام: بين 0.8 و1ـ مرتفع/ بين 0.5 و0.799 ـمتوسط/ أقل من 0.5ـ منخفض.
على ضوء هذه المؤشرات الاقتصادية؛ يتبين أنها تغيب الجانب الروحي وتركز فقط على الماديات، مما يجعل أغلب هذه المؤشرات تبوء مشاريعها بالفشل، أضف إلى ذلك إلى أنها تغلب الجانب “البراغماتي” على الجانب الإنساني، ليصبح العالم المتلف -ماديا- كبش فداء لأغلب استراتيجياتهم الفاشلة!

– المؤشرات النبوية للتنمية:
عودا على بدء؛ لقد سطر حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم -وحيا من ربه سبحانه- أروع المؤشرات والمعايير لتحقيق تنمية متكاملة من خلال حديث نبوي شريف جامع ومانع: (مَن أصبح آمنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا بحذَافِيرها)، إذ يشمل ما يلي:

1- نعمة الأمن:
الأمن لغة: مصدره أمن، الأمان والأمانة بمعنى: وقد أمنت فأنا أمن، وأمنت غيري من الأمن والأمان ضد الخوف( ).
واصطلاحا هو: اطمئنان النفس وزوال الخوف؛ ومنه قوله تعالى: (وآمَنَهُم مِن خَوْف) (قريش:4)، ومنه الإيمان والأمانة، وضده الخوف. ووقع من أسمائه الحسنى المؤمن في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر:22)، ومعناه أنه هو المعطي الأمان لعباده المؤمنين حين يؤمنهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
وينقسم الأمن إلى قسمين:
– أمن في الدنيا: وهو يتحقق على الصعيد الفردي والاجتماعي بمختلف الأشكال الحياتية: سياسي، عسكري، اقتصادي، تعليمي، اجتماعي…
– وأمن في الآخرة: وهو الاطمئنان بعدم عذاب الله في جهنم، وهو خاص بالمؤمنين الذين عملوا الصالحات (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
إن مفهوم الأمن أوسع مما نتصور، إذ يشمل الأمن العقدي من كل تشويه وتحريف؛ والأمن الفكري من خلال الحفظ على الهوية الإسلامية التي تحاول التيارات التغريبية/الحداثية هدمها؛ والأمن الاجتماعي من خلال ما حث عليه حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى( )؛ والأمن الصحي؛ والأمن في الغذاء والتعليم والتربية…
وخلاصة القول؛ للإسلام نظرته الشمولية للأمن لاستيعابه كل شيء مادي ومعنوي، كما أنه حق للجميع أفرادا وجماعات، مسلمين وغير مسلمين. ومفهوم الأمن في القرآن الكريم شمولي باحتوائه على مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: “حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض”.
بل حذرت الشريعة الإسلامية من خطورة الحرمان من الأمن المعنوي الذي يظهر في صورة انعدام الأمن والخوف.
ولله در عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ قال لأحد عماله الذي كتب إليه: “إن مدينتنا قد تهدمت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالا نرممها به فعل”، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: “إذا قرأت كتابي هذا: فحصنها بالعدل ونقِّ طرقها من الظلم فإنه عمارتها” .

2- الأمن الغذائي: عرف البنك الدولي (الأمن الغذائي) كما يلي: “قدرة كل الناس في كل الأوقات على الحصول على الطعام الكافي والذي يضمن لهم حياة صحية نشطة”، لكن ما يعاب على هذا التعريف أنه لم يذكر مصدر الحصول على هذا الطعام، إذ ما يلاحظ أن يأتي من مصادر خارجية -في الغالب- دون التفكير في الموارد الذاتية، مما يجعلها عرضة للإملاءات والضغوطات الخارجية…
وفي هذا المضمار يتم التمييز بين:
-الأمن الغذائي المطلق: “قدرة الدولة على إنتاج الغذاء داخل أرضها بما يعادل أو يفوق حاجتها المحلية أو الطلب الداخلي فيها”.
-أما الأمن الغذائي النسبي فقد عرفوه بأنه: “قدرة الدولة على توفير السلع والمواد الغذائية كلياً أو جزئياً لشعبها ومواطنيها”.
وبناء على هذه التعريفات ركز الإسلام على استقلالية الأمة وقدرتها الخاصة على إنتاج طعامها من خيراتها وذلك حفاظا عليها من الوقوع فريسة الابتزاز في طعامها؛ لأنها إن وقعت في الفخ أصبحت ألعوبة بيد من يملك مقومات الإنتاج وعناصره.
وقد أكد الإسلام على الإنتاج وتوفير الحاجيات من خلال استغلال الثروات والخيرات الموجودة برا وبحرا من خلال بذل الجهد وتعبئة الطاقات والموارد البشرية والمالية، وتبرز أهمية هذا الدور في عالم مادي اختلت فيه الموازين وبلغت درجة من الاحتكار أدت إلى موت البشر من الجوع على مرأى ومسمع من أقطاب الحضارة المتمدنة في القرن العشرين والحادي والعشرين جهارا نهارا…
ومن مظاهر اختلال الموازين بين دول العالم في الانتفاع بثروات الأرض وخيراتها هو ما تشير إليه الأرقام، إذ أن 20% من سكان العالم يتصرفون في 80% من ثرواته، في حين يتقاسم 80% من سكان العالم 20% فقط من ثرواته.
وإن مثل هذا الاختلال يعود إلى أسباب عدة، منها: قصور وتراجع السياسات المتبعة فيما يسمى بالدول النامية أو العالم الثالث ونقص قدرته على تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية، إضافة إلى الهيمنة السياسية الدولية على مقدرات وخيرات الشعوب التي تسعى جاهدة لإبقائها في حالة من التبعية الاقتصادية لها؛ تمكّنها من الحفاظ على تفوقها وارتباط الآخر بها.
إن أهم مرتكز من مرتكزات الأمن الغذائي هو تحقيق الاكتفاء الذاتي ولو جزئيا على الأقل في المواد الأساسية والضرورية، لكي يستطيع الشعب أن يحافظ على استقلال إرادته وكرامته. وأرضنا العربية والإسلامية تمتلئ بالخيرات والثروات التي تمكننا من الاستقلال وتحقيق أمننا الغذائي الخاص بنا بعيدا عن الهيمنة والتبعية الأجنبية .
وطبقا للمقولة الرائجة: (من لا يملك قوته لا يملك قراره)؛ فدول النفوذ السياسي (وهي المانح الرئيس للغذاء في العالم) هي في الغالب تمنح الغذاء من أجل إرغام المحتاجين للطعام على قبول الأجندة الظالمة، وهذا هو الذي تفعله اليوم الدول الكبرى ذات السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوربا. وهذا ما ذهب إليه كل من (جوناثان بوار وأني – ماري هولانستين) في كتابهما عالم الجوع (WORLD OF HUNGER ): (إن الولايات المتحدة الأمريكية بما لها من إنتاج غزير للغذاء في السوق العالمي تستطيع أن تتحكم في مصائر المجموعات الهائلة من الجياع في العالم).
ومما يؤسف له أن السودان التي تعد سلة غذاء العالم العربي والإسلامي؛ والتي كان من الأولى بدول العالم الإسلامي دعمها دعما متينا لتغطي النقص الحاصل في الغذاء، أصبحت مرتعا للنهب الغربي والنصراني المحلي، وللخطط الصهيونية الماكرة، وبقي المسلمون يتفرجون على تطبيق اتفاقية “سايكس/بيكو” الجديدة ولا حول ولا قوة إلا بالله!
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *