فيسبوكيات (ج4) ربيع السملالي كلامُ ربّي

قال لي ما هو أحبّ كتابٍ إلى قلبك، والذي كان له أبلغ الأثر في حياتك؟
فقلتُ: إنّ أحبّ كتاب إلى قلبي وروحي وجوارحي هو كتاب الله تعالى.. بدليل أنّني حصّلت من أجل فهمه واستيعابه، أكثر من عشرينَ تفسيرًا، للقُدامى والمحدَثين، ومازلتُ أبحث عن المزيد.. بل صدّقني إن قلتُ لك: إنّ الغالبَ على مكتبتي علومُ القرآن والسّنة المُشرّفة… ولا أعرف كتابًا من كتب البشر قد جعلني أهتمّ به كاهتمامي بهذا الكتاب الخالد الذي فيه ذِكرنا وذكرياتنا ومآلنا وسعادتنا.. وهو دستورنا الذي يجب أن نعود إليه ليعود إلينا ذلك المجد الهارب، وما سوى ذلك فالذّل والهوان والخذلان والهزائم وانقطاع القطر من السّماء كما هو حالنا اليوم.. والله المستعان!
تأمُّل!!
قالتْ لي: ويحكَ يا ربيع! ما عُدتَ تبوح كسابق عهدك حين يهبط اللّيل ويكفّ الضّجيج وتذهب الحياة من حولك في سبات عميق…وقد ألِفنا حرفك، وواقعيتك، وتبسّمك في وجه قارئك من بين الكلمات= رغم تجهم الأيّام التي تستبدّ بك مآسيها.. فهل أنت بخير يا صديقي؟!
فنظرتُ إليها بامتنان وابتسامة خجلى انفلتت من بين شفتيّ اليابستين ثمّ قلت بحماس:
جُعلتُ فِداك سيدتي الفاضلة، فحين تتراكم هموم الكتابة على خاطري، وتضيقُ بي الأحوال، وتكثر الكتب الجديدة في بيتي ألوذ بالصّمت والتّأمل والتّركيز على المقروء الذي بين يدي، وأقلب ظهر المجنّ للخاطرات والهواجس والأفكار، لا أسجّلها، ولا أحدّث نفسي بتسجيلها، إلاّ لضرورة ليس لقلمي منها بدّ، فأنا قارئ أوّلا وأخيرًا، والكتابة لا تستهويني كما تستهويني المطالعة في كتبٍ ترفع عنّي الجهل وتجعلني أعيشُ خارج هذا الزّمن الذي كُتب عليّ رغم أنفي العيش في أحضانه.. وهذا شيء ليسَ وليدَ هذه الأيّام التي افتقدتِ فيها حرفي.. بل مذ عقلت وأنا أقرأ كثيرًا، وأكتب قليلا قليلا.. وصدّقيني فالقراءة هي التّوأم الوسيم للكتابة، ومستحيل الفصل بينهما في عالمي هذا الضّيق، وحين أتوقّف عن القراءة، سأشيّع قلمي إلى مثواه الأخير.. وكما قال أحمد بوزفور: يبدو أنّني لستُ كاتبًا كما أظنّ ويظنُّ قُرّائي، أنا مجرّد قارئ يتسلّى بالكتابة!.. وشكرًا لاهتمامك الذي لا أستحقّه!
خير جليس
من عادتي أن أحملَ كتابًا أو كتابين في يدي عند خروجي من البيت، فلاحظَ ابني عبدُ الرحمن ذلك، فسألني سؤالاً استنكاريًا مفاده: لماذا يا أبي تُخرِج معك هذه الكتب، وقد رأيتكَ لا تنظر فيها إلاّ لِماما حينَ أكون برفقتك..؟
أعجبتني ملاحظته الدّقيقة وسؤاله البريء، فقلت: أحملها يا بنيّ لأنّنا لا نعلمُ ما تأتي به الأقدارُ ونحن خارج البيت، فأخاف أن يداهمنا أمرٌ ما فيدركنا المَبيتُ في مكان لا ماء فيه ولا شجر، فأهتبل الفرصة هناك لمطالعة ما أحمله في يدي! لكيلا يسرعُ إليّ المللُ، وكما تعلم عنّي فأنا رجل ضجور سؤوم حين أكون بعيدًا عن الكتب!
لذّتي..!
ويحدثُ أن تنفِقَ ليلَك كلّه أو نصفَه في سبيل البحث عن كلمة واحدة من كلام العرب.. كلمة استعصى عليك فهمُها صرفًا وتحويلاً.. معنى ومبنى.. ثمّ تفاجأ بهذا الكمّ الهائل من المعلومات وهذه المعاني الكثيرة لهذه اللّفظة التي أسرف في الإحاطة بها ابن منظور في لسانه، وبالغ في شرحها الزَّبيدي في تاجه.. فلا تجد بعدما تنهي بحثك هذا المضني اللّذيذ إلا أن تلقي بكلّ هذه التّواليف المفتوحة أمامك، وتسترخي فوق سريرك ما وسعك الاسترخاء مُردّدا بينك وبين نفسك: ما أعظمَ لغة القرآن‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬!
ثم تنام قريرَ العين على وقع هذه اللّذة التي تملأ جوانحك حبّا وتسربل قلبك شغفًا..على أمل اللّقاء في اللّيلة الموالية مع لفظة أخرى!
فتنة!
مازلت أذكر ذلك المساء قبل بضع سنوات حين نشَرت لي بعض الصّحف السّيارة في بلاد المغرب أوّل مقالة لي، مازلت أذكر تلك السعادة التي اعترتني وأنا أقلّب تلك الصّحيفة بيد مرتعشة حين وقعت عيني على اسمي وكأنّها وقعت على كنز في بلد كصحراء قاحلة!.. ومازلت أذكر كيف قبّلت ابني عبد الرحمن -الذي كان برفقتي- بشراهة حتى كدت أمزّق خدّه الأملس البريء من شدّة الفرح.. أما الآن فسبحان مبدّل الأحوال فقد أصبحت أنام ملء جفوني عن شواردها، ولا أبالي أنُشر اسمي في جريدة أم كتاب أم مجلة أم مقالة! وهذا القول ليس غرورًا أو كبرا كما قد يحلو لبعض الخبثاء أن يسموه، لكنّها والله الدّنيا التي تبهرك أوّلا ثم تجعل كلّ شيء يتلاشى مع الوقت.. ويا لسعادة من يدرك هذه الحقائق! فالدّنيا كلّها مجرّد خيال لذلك ينبغي أن يشغل الكاتب نفسه بالإخلاص ونفع أمّته، أمّا الشّهرة والتّنقيب عليها، فهي داء تكلّم عنه شيخنا علي الطنطاوي وأطنب في كثير من كتبه، وبيّن كوارثها، وقد قال بعض السّلف: ما اتّقى الله من أحبّ الشّهرة!
المتنبي
المتنبي شاعر مُبدع عبْقَري صَمَدَ في وجه المُدلهمَّات والعواصِف والكوارث، وألسِنَة الحسَدَة والمُغرضين، ولم يبالِ بتلك الجِراء الصغيرة التي ظلَّت تنبحُ في طريقه وهو يشقُّها نحو الخلود، متجاهلاً كل تلك النتوءات التي كانت تعترضُ سبيلَه، فكان جزاءُ صبره وعزيمته وهمته العاليةِ أن طارَ ذِكرُه في الآفاق، واشتهرَ شهرةً لم يشتهر مثلَها أحدٌ غيرُه عبرَ الأزمان المتطاولة، فمات النقدُ والنقَدَةُ والجَرْحَ والجرّاحون، وبقي هو في سماء التميز كنجمةٍ مضيئةٍ يَهتدي بها السائرون نحو الأدب الرفيع، واللغة الأنيقة، والحِكَم الشائقة، والأبيات التي انطلقت من الأفواه انطلاقَ التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، ولو لم يكن له من الشِّعر إلا قوله:
وإذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ…فَهيَ الشَهادةُ لي بأنّي كاملُ
لحُقَّ له أن يسبق الجميع، وكفى به فخرًا أن يكون إمام العربية في عصره (ابن جِني) تلميذًا بارًّا له! بل ما أسعدَه وما أعظمَ حظه أن يُعطيه علامة العربية في عصرنا (أبو فِهْر محمود شاكر) الحظ الأطيبَ والنصيبَ الأوفى من حياته لتذوُّق شِعره وفهم شُعوره، حتى كتب عنه سِفرًا لم يؤلَّف مثله في التاريخ كله -فيما أعلم-!
ولله درُّ العلامة الزركْلِي حين وصفه بقوله: الشاعرُ الحكيمُ، وأحدُ مفاخر الأدب العربي، له الأمثالُ السائرة والحِكَم البالغة والمعاني المُبتَكرة، وفي عُلماء الأدب مَن يَعدُّه أشعرَ الإسلاميين.
أخبارُ الغرقى!
في معرض الكتاب تجد القارئ الجادّ شاردًا لا يرى شيئًا إلا عناوينَ الكتب والبحثَ عن الغنائم، والقارئ الآخر تجده لا يتصفّح شيئًا غير الوجوه البشرية المتراكمة، لعلّه يظفر بوجه كاتب أو أديب أو عالم ضائع وسط هذه الحشود، ليلتقط معه صورة، يعرضها على أصدقائه (الفسابكة)، ويقال: فلان ما شاء الله علاقته بأهل العلم والأدب طيّبة، كلّ عام نراه في صورة مع أحدهم!
أمّا إذا سألوه ما هي الكتب التي اشتريتَ من المعرض: فيردّ عليهم بجهل وغرور، لا شيء! هذه السّنة لم يكن المعرض موفّقًا.. تصوّر بحثت عن كتاب (تفضيل الكلاب عن كثير ممن لبس الثياب) ولم أجده!!..
أمّا الذّاهبون إلى المعرض من أجل الفسحة، ومعاكسة نون النّسوة فحدّث ولا إثم عليك!
غُثاء!
بصدق أشفق على إخواني وأخواتي المبتدئين والمبتدئات في القراءة= حين يذهبون إلى معارض الكتاب أو المكتبات الكبيرة، كيف سيتصرّفون أمام كلّ هذا الكمّ الهائل من الرّداءة التي تملأ الرّفوف، وكيف يميّزون البُرَّ من الخُشار، بل كيف سيكون ردّ فعلهم أمام العناوين البرّاقة، والأغلفة المزركشة التي تخدع النّاظرين!… أما عن طبعات حمّالات الحطب فهي كارثة لا يشعر بها إلا من كان رفيقًا للكتب سنينَ عددًا!
طُرفة= وجدت مرّة فتاة صغيرة توقّع كتابًا صغيرا لها أطلقت عليه اسم (ديوان)! فحملني الفضول على تصفّحه فوجدت هذه الضّائعة كاتبةً في الغلاف الخلفي نموذجًا من شعرها تقول في بدايته = (ثدياي كبيران كثديي أمّي…!) وعلى هذه النّماذج فقِس!
انحطاط
أغلبُ كتّاب القصّة القصيرة في عصرنا الحالي تخرّجوا من معاهد (الفيس بوك)، ومدارس (تويتر)، وأخذوا حظّهم من العلم عن طريق الشيخ (google) ونصيبهم من المعرفة من (اليوتيوب). وكانت الثّمارُ غثاءً كغثاء السّيل، تُطبع القصص القصيرة في عشر ورقات، ثم يزعم أهلها أنّهم مبدعون.. وقد رأيتُ قبل أيّام امرأةً من أرض الحجاز في برنامج تلفزيوني تزعم أنّها كاتبة قصص ترتعد وهي تتحدّث إلى المذيع وتضيع منها الكلمات، لا تكاد تبين، وقد عرفتها في الفيس بوك قبل هذا البرنامج لها دعوى عريضة وغرور كبير، لكن هذا الضّرب من العباد كما يقول بكر أبو زيد: ما يلبثُ أن يلحقه الإدبار، فتحيط به خطيئته، فتنقله إلى (السّقوط المبكّر):
كلّ من يدّعي بما ليس فيه…فَضَحَته شواهدُ الامتحان
يُتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *