وفاة البوطي وإيمان العلمانيين ذ. يونس الناصري

ما إن أفضى الشيخ البوطي إلى ربه في انفجار استهدف المسجد الذي يدرس فيه، حتى ارتمى العلمانيون بأقلامهم ومحابرهم من هذا القطر ومن ذاك، رافعين راية الدفاع عن شيخ الإسلام وعلامة الأنام وحبر الأمة، الذي أجمع القاصي والداني على طول باعه، وقوة إيمانه وتقواه، وإخلاصه للإسلام والمسلمين.
لا ينقضي عجبي من طائفة لا تقيم للدين الإسلامي وزنا في كلامها وكتاباتها ومواقفها، بل في حياتها اليومية، تتأجج مشاعرها الإيمانية الصادقة غيرةً على علماء الإسلام، وعلى شريعة رب الأنام، وتسلط أسياف الحجة والبرهان على علماء السوء من الوهابية السلفية ، الذين فرحوا لموت البوطي أيما فرح، وحسبوه فاتحة خير لأهل السنة المضطهدين في بلاد الشام.
يزداد العجب حينما يصطف المعسكر العلماني المتطرف، تغلي أحاسيسه المخلصةُ لدين الله تعالى، ليترحم باكيا نائحا على الشيخ البوطي، ناعيا موتَه للمسلمين والغربيين، مرجئا صلاةَ الغائب عليه إلى حين يكتمل الصف، وتنبري الأقلام المنشغلة بقضايا أخرى شائكة، كالطعن المستمر في الحكومة الجديدة.
وقد صدق فيهم حقا قولُ رسولنا الكريم: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوءة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت” (رواه البخاري)، فقد كانوا في غفلة من انتقاد أفعال الطاغية المجرم بشارٍ في الشعب السوري الأبِيِّ طوال عامين وأكثر، كانوا يتحدثون عن موازين واستوديو دوزيم وهلم سحبا من أشكال الانفتاح -حسب زعمهم- ويقفون في وجه أي تغيير يُشَمُّ منه تحريكٌ لجانب أخلاقي متفق عليه بين المسلمين (دفتر تحملات الإعلام)، ويعلنون جهرا أمام المغاربة أنهم يريدون زوال الفصل القانوني المجرم (المحرم) لأي علاقة غير شرعية، ويسرفون في حرية عمياء، ترأس إعلانها على الهواء مختارُهم الغزيوي، ليجد كل الدعم الإعلامي المأدلج مناصرا له ولطروحاته الشاذة المعبرة عن فكر كل علماني متستر بالدفاع عن البوطي، وكادت حناجرهم تتمزق غيظا على الشيخ النهاري لما قال في الغزيوي ما قال، محذرين عموم الخلق -حسب بهتانهم- من الفكر الظلامي الوهابي المشجع على إراقة الدماء.
هؤلاء هم بنوعلمان الذين يذبون عن البوطي الراحل، ويظهرون للناس غلوَّ سلفية المغرب وشماتتهم بالأموات، فمن نصدق يا قومنا؟ من علمنا الترحمَ على المسلمين وذكرَهم بخير على العموم، إلا أن يكون المرءُ داعيةَ سوء وضلالة؟ فآنذاك نذكر سوءه وشرَّه ليعلم المسلم حقيقة الإسلام التي لا تحابي أحدا من الخلق، مصداقا لقول الحق جل في علاه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة/21)، وقول رسوله الكريم: “من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله” (من رواته ابن عبد البر في التمهيد)، أم نصدق العلمانيين الذين يوادون -وإن لم يصرحوا بذلك- بشارا وشبيحته القتلة المجرمين الذين فضحتهم شواهد الامتحان، وعلم كفرهم القريب والبعيد؟ وفي الآن نفسه يبغضون الجيش السوري الحر المجاهد، ويصفونهم -اتباعا لإخوانهم العلمانيين في سوريا والعالم بأسره- بالمرتزقة الإرهابيين المموَّلين من دول لا تريد استقرار سوريا، وتبغي فسادها ودمارها.
ذلك أن دأب العلمانيين التشكيكُ في المسلمات، يسمعون قول عُبَّاد بشارٍ: لا إله إلا بشارٌ، وبشار الأكبر، وكتاباتهم على الجدران المهدمة لعبارات تقطر دما وحقدا وكفرا، لا يختلف مسلم، فضلا عن مؤمن في قبحها وخروج قائلها وكاتبها من الملة الحنيفية، يسمعون ذلك ويضعون أغلفة على العيون (ما رأينا) وأصابعهم في آذانهم (ما سمعنا)، ثم يقولون: بشار زعيم العرب وقاهر الإرهابيين، الصامدُ المظلوم الذي تُحاكُ له خطةٌ عالمية خبيثة.
وما بكوا للبوطي دفاعا عن العلم وشريعة الإسلام، ومراعاةً لحق علماء الأمة وحرمتهم، بل فعلوا ذلك لأنه مات مناصرا للسفاك الطاغية، صامًّا أذنيه عن نصائح أصدقائه من العلماء المنشقين عن النظام النصيري الملحد.
إنه لا يُفهم من شدة كلامنا الموافقةُ على تفجير المساجد وغيرها من المرافق وقتل المسلمين وذكر الموتى بسوء؛ لأن شريعتنا السمحة التي ندين الله تعالى بها تجرم كل ذلك وتحرمه، وتدعو إلى الإيمان والأخوة والمحبة ومعاملة غير المسلمين برفق ولين، فكيف بالمسلم الموحد، وأدلة هذا كثيرة يطول المقام بسردها، وإنما شدة القول تبغي اللئامَ العلمانيين المصطادين في المستنقعات العكرة، الذين صدق فيهم قول الشاعر:
شر الورى بمساوي الناس مشتغلُ مثل الذباب يراعي موضع العللِ
فمنهم -وهو الكثير- من لا يصلي ولا يصوم، بدليل دفاعه عن (وكالين رمضان)، بل منهم الملاحدة؛ بدليل دفاعهم عن حرية المعتقد، ورغم ذلك أذابوا صفائح وجوههم، واستأسدوا على أهل العلم المخالفين للبوطي، واقتحموا ميدانا هم من أبعد الناس عنه علما وعملا .
وللتوضيح، فقد اتفق علماء الإسلام قاطبةً على أن الجرح والتعديل -بناء على قواعد شرعية معتبرة- كان من أعظم أسباب تمييز حقيقة الإسلام المستقى من الكتاب والسنة مما أُدخِلَ فيه من بدع ومنكرات وأحاديث باطلة، ودليل ذلك قولهم: فلان كذاب ومتروك ومتَّهم في دينه.. وخلدوا رحمهم الله شروط القدح في الرجل في بيتين شعريين رائعين:
والقدح ليس بغِيبة في ستةٍ متظلم ومعرِّف ومحذِّر
ومجاهر فسقا ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر
فليس غرض العلماء رحمهم الله أن يتبعوا عورات بعضهم بعضا، بل كان همهم هو تحذير عوام الناس من بعض من يُظن فيه العلم والورع، وهو منهما بعيد، كل ذلك بأدب جم ونية صادقة خالصة، ولولا ذلك لما عرفنا الحديث الصحيح من الموضوع و الباطل.
فإذا قام بعض العلماء المغاربة بذكر ما للشيخ البوطي من مساوئ وزلات ، وفتاوى مخالفة لإجماع الأمة، وتكفير للمجاهدين الأحرار، ووصف للشبيحة ومقاتلي الحرس الثوري و(حزب الله) بالصحابة.. إذا ذُكر البوطي بما فيه مما هو معلوم عنه، أخذت بني علمان الحميةُ للدين، وجعلوا ذلك مطية للطعن في فضلاء العلماء الربانيين من أهل السنة، الذين لم يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، لنفهم ويفهم كلُّ عاقل أن هدف بني علمان هو إلباس علماء السنة الناصحين جبةَ الفظاظة والغلظة ومخالفة الشرع، حتى يستميلوا قلوب المرضى، ويقلبوا في أذهانهم صورةَ العلماء السلفيين الذين يكن لهم المسلمون الطيبون كلَّ الود والاحترام والتوقير.
كان أحرى ببني علمان المدافعين عن الحق والعلماء أن يلتفتوا إلى القاتل الحقيقي للبوطي؛ إذ تناقل مقربون من الشيخ أن بشارا وأعوانه هم من دبر مكيدة للبوطي لما وصلتهم أخبار قرب انشقاقه عن النظام، بدل التشنيع على من وصف الشيخَ بما فيه.
فإلى متى سيظل العلمانيون حاقدين على الدين؟ ألم يقرؤوا قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:88)؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *