ليس عيبا أن ينجذب المرء أمام زخارف الحداثة فتغريه زينتها وبريقها، بل قد ينخدع لزيفها ويجره غرورها، لكن الأصيل من يرده طبعه وخلقه إلى أصله، فيأخذ الجيد الحسن ويرمي بالسيئ الرديء بعيدا عنه وعن مجتمعه وينفر منه فارًّا وعائدا إلى أصالته وتراثه.
1. لَبَيْــــتٌ تخفِـــــــقُ الأرواحُ فـيـــــه … أحــــبُّ إليَّ من قصـرٍ مُنيفِ
2. وأصـــواتُ الـــــرياحِ بكل فَـــــــجٍّ … أحــــبُّ إلي من نَقْر الـــدُّفوفِ
3. وكلبٌ يتْبَعُ الأظْعـانَ صَعْبٌ … أحــــــــبُّ إليَّ من قِــــــــــطٍّ ألوفِ
4. ولُبْــــــسُ عبــــاءةٍ وتقَـــــرُّ عيْني … أحبُّ إليَّ من لِبْسِ الشُّفوفِ
5. وأكْلُ كُسَيـــــْرَة في كِسْرِ بَيْتي … أحـــبُّ إليَّ مــن أَكْلِ الرَّغيفِ
6. وخرْقٌ مِن بني عمي نجيبٌ … أحــــــبُّ إليَّ مـــن عِلْجٍ عليفِ
الأبيات لميسون بنت بَحدل الكلبية، ولدت ببادية بني كلب، أبوها بَحدل بن أنيف الكلبي سيد قبيلته، تزوجها معاوية بن أبي سفيان في إمارته على الشام، وظلت معه مدة طويلة ثم حنت لأهلها ووطنها، فأنشأت الأبيات، ولما سمع منها معاوية ذلك طلقها وهي منه حامل بيزيد.
1- تخفق : تضطرب؛ الأرواح : جمع ريح
4- الشفوف: الثياب الرقيقة الشفافة، والبيت من شواهد سيبويه على نصب المضارع بأن مضمرة جوازا معطوفا على اسم صريح “لبس”
5- خرق: السخي الكريم؛ العلج : الغلظ الشديد.
عزةٌ وكرامة وشرف أن يعتز امرؤ بأصله ووطنه وبيئته وتراثه، مفتخرا ملئ فيه به، ممجدا له ورافعَه فوق كل زيف من الزخرف ودجل من الحداثة.
ولنعم الحنين حنين ميسون بنتِ بحدل البدوية الأصيلة الفصيحة إلى أصلها، غير متنكرة له ولا قاطعة حبل صلتها به إذ غُمست في نعيم من الدنيا عظيم، كلُّ يتطلع إليه، ونادر قليل من يفيق من سكرته ويلتفت إلى ماضيه إذا استلذ أطايب مثل ذلك النعيم، واستحلى نعومته وسَحر عينَه جمالُه، لكن أصالة الطبع وكرم النحيزة وعلو الخلق وقوة النفس في شاعرتنا ميسون جعلها تتنكر لكل ذلك النعيم شوقا وحنينا إلى أصلها بقساوة حاله، وشظف عيشه وخشن ثوبه، ثم ترفع ذلك وتجعله الفضل الفاضل والنعيم الناعم الذي لا يدانيه نعيم.
ولنعمت المرأة ميسون في أصالتها الراسخة وأدبها البدوي العالي الذي لم يحفظ منه غير هذه الأبيات وأخرى تنسب إليها في ابنها يزيد لا ترقى إلى بلاغة وفصاحة هذه الأبيات التي فيها الدلالة الكافية على نبوغها وتمكنها وعلو كعبها في الشعر ونظمه، فخيرُ الشعر ما كان طبعا لا تَلمس بين كلمات أبياته وثنايا معانيه كلفةً تكدر صفو قراءته -كأبيات ميسون سالفة الذكر- يأخذ بلبك لإتْباع البيتِ بالذي يليه، إلى أن تتمه مشتاقا إلى الزيادة منه وإعادة ترديده مرة تلو أخرى من غير ملل، والنقل أيضا دالٌّ على الطبع في الأبيات، إذ حُكي أن ميسون أشرفت من القصر على الفضاء الرحب فاشتاقت إلى وطنها وأهلها فأنشأت الأبيات.
فلما علم معاوية رضي الله عنه بحنينها لوطنها وهجائها إياه طلقها وألحقها بأهلها، وقال لها: كنتِ فبنتِ، فقالت: لا والله ما سررنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنا! فلم تكن أبياتها شعرا تهذي به، بل موقفَ حسمٍ وحنينَ صِدقٍ نظمته شعرا وأكدته نثرا.
وفي الأبيات الدلالة على أصالة المرأة العربية، وعزة نفسها، فليس يخدعها زخرف الحضارة وزيفها، كذلك كنّ، وكان الرجال من لبنهن وأدبهن يرضعون العزة والكرامة والأنفة، فلما انبهر نساؤنا ورجالنا بحضارة لم يذوقوا من نعيمها، وتطلعوا لما ليس له صلة بأصلنا، ظهرت موجات الانسلاخ من الماضي والتراث مقابل أوهام وأحلام لم ينالوا منها غير ذلِّ تقليد أعمى وتبعية عمياء طمعا في متاع فانٍ لم يذوقوا منه حظا.
وليس من الناس من يتنكر لأصله إلا دعي دنيء الخلق منتفخ صدره من كبر، منبت الصلة غامطُ الحقِّ أهلَه، متطلع لما لم ينله عساه يربط حبله بغيره نسبا ودينا وثقافة وأدبا.
فلما جاد الغرب على قوم ببعض من فتات الدنيا وحطامها، وبَهرج من القول وزيف من الأدب ورديء من الثقافة وملق في المعاملة وكرم مصطنع في الضيافة، ثم نفخوا فيهم حتى ليخيل إلى أحدهم أنه الإمام المجدد المصلح لما أُفسد، الآتي بما لم تأت به الأوائل ولا الأواخر، فهو في نفسه أبحرُ من الخليل وأنحى من سيبويه وأفقه من مالك وأكرم من حاتم، ثم ضمنوا لهم بعد ذلك أن يبوئوهم كراسي السلطة ومراكز القرار !
فلم يكن حالهم كحال ميسون بنت بحدل، ولم يكونوا في أصالتهم كأصالتها، بل حملوا المعاول وأشهروا ألسنتهم حدادا وجعلوا سلطتهم سلاحا يحاولون به اجتثاث هذه الأمة عن جدورها الراسخة، وقطع صلتها بتراثها وماضيها تارة بالطعن في أئمتها وعلمائها، وتارة باستبدال المناهج الغربية بمناهج الأمة وأصولها، وتارة غمزا ولمزا وطعنا وسبا من وراء ستار، وتارة بإغراق الأمة في وحل من العبث في دراسة العبث والمجون وأدب العوام …
ليس عيبا أن ينجذب المرء أمام زخارف الحداثة فتغريه زينتها وبريقها، بل قد ينخدع لزيفها ويغره غرورها، لكن الأصيل من يرده طبعه وخلقه إلى أصله، فيأخذ الجيد الحسن ويرمي بالسيئ الرديء بعيدا عنه وعن مجتمعه وينفر منه فارًّا وعائدا إلى أصالته وتراثه مرددا في فخر مع ميسون بنت بحدل أبيتاها:
لَبَيْــــتٌ تخفِـــــــقُ الأرواحُ فـيـــــه … أحــــبُّ إليَّ من قصـرٍ مُنيفِ
وأصـــواتُ الـــــرياحِ بكل فَـــــــجٍّ … أحــــبُّ إلي من نَقْر الـــدُّفوفِ
وكلبٌ يتْبَعُ الأظْعـانَ صَعْبٌ … أحــــــــبُّ إليَّ من قِــــــــــطٍّ ألوفِ
ولَبْــــــسُ عبــــاءةٍ وتقَـــــرُّ عيْني … أحبُّ إليَّ من لَبْسِ الشُّفوفِ
وأكْلُ كُسَيـــــْرَة في كِسْرِ بَيْتي … أحـــبُّ إليَّ مــن أَكْلِ الرَّغيفِ
وخَرْقٌ مِن بني عمي نجيبٌ … أحــــــبُّ إليَّ مـــن عِلْجٍ عليفِ