نادانا الله تعالى بوصف الإيمان فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ” وفي ذلك تشريف لنا من وجهين:
الأول: أنه خصنا بالنداء دون غيرنا من أهل الكفر والطغيان.
الثاني: أنه نادانا بأحسن أوصافنا وهو وصف الإيمان.
ولهذا قال ابن مسعود: “إذا سمعت الله يقول: “يا أيها الذين أمنوا” فارْعِهَا سَمْعَك (أَيْ فَرِّغْ لَهَا سَمَاعَك)، فإنه خيرٌ تُؤْمَرُ به أو شرٌّ تُنْهى عنه” (أخرجه أحمد في الزهد بإسناد رجاله ثقات).
ولهذا تجد لسان حال أهل الإيمان يقول بعد هذا النداء: لبيك ربَّنا، وسعديك، والخير في يديك، فنحن عبيدُك وبنو عبيدك، ونحن طَوْعُ أمرِك وطَوْعُ نَهْيِك، فمُرْ بما شئت فأنت أهلٌ لأن تُطاع، وقل ما شئت فأنت أهلٌ لأن يُسمعَ لك. وتجد أهل الإيمان بعد هذا النداء قلوبهم واعية متلهفة لما يقول لهم الملك الديان، وأسماعهم مصغية متعطشة لما يأمرهم به الكريم المنان.
ثم بعد النداء الكريم وعظنا ربنا موعظة عامة، فقال سبحانه: “اتَّقُواْ اللّهَ”، وهي موعظة متضمنة لامتثال الأوامر كلها، واجتناب النواهي جميعها.
ثم عقبها بموعظة خاصة فقال: “وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا”، وهذا تَدَرُّجٌ من العام إلى الخاص، وتَخَلُّصٌ من الأسباب والدوافع إلى النتائج والثمرات، فتقوى الله سبب يحمل صاحبه على اجتناب الكبائر، والتي من بينها أكل الربا، واجتنابُ الربا ثمرة من ثمار شجرة التقوى، كما أنه من ثمار شجرة الإيمان، ولذلك قال عز وجل بعد هذا الأمر: “إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”. فهذا أسلوب الرفق والإقناع، وهو كافٍ لأهل البصيرة والإيمان، ولكن لَمَّا كان أكثر الناس لا يعقلون، ولا يردعهم عن غيِّهم إلا الخوف من العقوبة العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ”، فأغلق عليهم باب هذه المعصية بإعلان الحرب على مقترفيها، ولم يجعل لهم فيها رخصة، حتى يقطعوا الطمع فيها، ثم فتح لهم باب التوبة وسهله عليهم فقال: “وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ” (البقرة278-279)
فو الله، لو ما أنزل الله في النهي عن الربا إلا هاتين الآيتين لكفتا أولي العقول والألباب، فكيف وقد جاء في الربا ما تقشعر له جلود الخائفين الوجلين؟!
فهو كبيرة من كبائر الذنوب، بل إنه من الموبقات (المهلكات)، كما قال صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا السبع الموبقات..” وذكر منهن “أكل الربا” (متفق عليه).
وهو سبب من أسباب الطرد من رحمة الله، فعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء” (رواه مسلم).
وآكلُه يقوم من قبره يتخبط كالمجنون، ثم يصير إلى النار، كما قال تعالى: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” البقرة275.
وأعد الله لآكل الربا من العذاب ما جاء في الخبر عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت الليلةَ رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر فِي فِيهِ فرده حيث كان، فجعل كلَّما جاء ليخرج رمي في فِيهِ بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر، قال: آكل الربا” (البخاري).
ومما ورد في التنفير منه ما جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعا: “الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيانِ الرجلِ أُمَّه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه” (صححه الألباني).
وهو سبب من أسباب نزول العذاب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: “إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أَحَلُّوا بأنفسهم عذاب الله” (حسنه الألباني).
فإذا كان الربا بهذه الخطورة فما بال المسلمين تَقَحَّمُوا نارَه على غير بصيرة، وانغمسوا في أوحال مستنقعه النَّتِن بغير رَوِيَّة، فمنهم من انغمس فيه إلى كعبه، ومنهم من تَوَغَّل فيه إلى وَرِكِه، ومنهم من يُلْجِمُهُ نَتَنُه إلجاما، مما يُؤْذِنُ بقرب الساعة، ودُنُوِّ أجل الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنا، والخمر” (صححه الألباني بغيره).