عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق..

المقدمة الشعارية للسلسلة
الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.
وطريق إصلاحها في الحوار..
وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.


الحلقة 15:

مِن أين يمرّ الطريق؟
فروع مفاهيمية
1-الليبرالية (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ترتبط الليبرالية في أذهان الناس بالحرية، حتى إن الكثيرين لا يكادون يفرقون بينهما، مع أن الحرية قيمة إنسانية عريقة في القدم، أما الليبرالية فمذهب فكري سياسي واقتصادي يستند إلى شعار الحرية، وإن كان لا يمثلها أفضل تمثيل.
تركز الليبرالية على مبدأ الحرية الفردية، وتعظّم لأجل ذلك استقلالية الفرد وتوجب احترامها؛ كما تحصر وظيفة الدولة في حماية حريات المواطنين الأساسية. وينتج من ذلك سعي الليبرالية إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل تدخلها في حركة السوق.
فالليبرالية تقوم إذن على مفهومين أساسيين: الحرية والفردية.
فالحرية: هي الأساس الأعظم الذي يقوم عليه المذهب الليبرالي، حتى إن اشتقاق اللفظين واحد. والحرية مفهوم معظَّم ومحترم باتفاق الجميع، لكنه -عند التفاصيل والتطبيقات- غامض أشد ما يكون الغموض. وبسبب غموض معنى الحرية، واتساعه لمعاني متناقضة في بعض الأحيان، كان مفهوم الليبرالية غامضا أيضا!
والفردية: تقيّد معنى الحرية، فتجعله خاصا بالفرد، بقطع النظر عن تأثير حقوقه وحرياته على المجتمع أو الأمة. فالليبرالية تدخل الإنسانية إلى عصر “تأليه الفرد”.
وتشمل الفردية معنيين اثنين: معنى الأنانية وحب الذات، وهو المعنى التقليدي في الأدبيات الليبرالية. والثاني: معنى الاستقلالية والاعتماد على النفس، وهو الاتجاه البراجماتي السائد في الأدبيات الليبرالية الحديثة.
وهذا يجرنا إلى أن نبين أن الليبرالية عرفت عبر تطورها التاريخي اتجاهات مختلفة، منها على الخصوص:
1- الليبرالية الكلاسيكية:
وتعتمد على الحرية الفردية، ومنع تدخل الدولة في الاقتصاد. ومبنى هذا الاتجاه على أن ترك الفرد يحقق مصلحته الذاتية الخاصة كفيل بتحقيق المصلحة العامة للمجتمع بشكل تلقائي دون تدخل خارجي.
وقد استفاد هذا التيار من الرافد الفكري المهم الذي قدّمته كتابات جون ستيورات مل.
2- الليبرالية الاجتماعية:
وهو نوع مراجعة داخل المذهب الليبرالي، قامت في مواجهة الليبرالية الكلاسيكية بسبب الأزمات الاجتماعية الخطيرة التي تسببت الليبرالية اللامحدودة فيها، خاصة أزمة الكساد العظيم عام 1929م.
3- النيو-ليبرالية:
والتي تدعو إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص. فيتحول التحكم في الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص، لأن ذلك يسهم في تخفيف أعباء الدولة، وتطوير الاقتصاد. ولكن النيو-ليبرالية مع ذلك تؤمن بأن للدولة دورًا مهما لا يمكن تجاوزه، فعلى كاهلها تقع مسؤولية تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير العدالة الاجتماعية، وتدخلها يكون عن طريق السياسات.
وتعمل الليبرالية في مجالين كبيرين: الاقتصاد والسياسة.
والجانب الاقتصادي أكثر أصالة في المذهب الليبرالي من الجانب السياسي. ومن أهم الحقوق الفردية التي يدافع الليبراليون عنها: حق الملكية الخاصة.
أما في الجانب السياسي فتحاول الليبرالية التوفيق بين ضرورة المحافظة على حريات الأفراد، وتنظيم شؤونهم السياسية.
وتعتبر نظرية العقد الاجتماعي أبرز معالم الليبرالية السياسية، وهي مبنية على فكرة وجود عقد بين الدولة والأفراد يخضع الجميع له. كما أن القانون الطبيعي يُعد المرجعية للحقوق الأساسية للإنسان في المذهب الليبرالي، وأي حكم قانوني أو قضائي يخالف هذه الحقوق فهو لا قيمة له، لأنها أساس التشريع.
وتعتمد الليبرالية مبدأ فصل السلطات إلى تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، لأنه الضامن للحرية السياسية، إذ أن الخلط بين السلطات الثلاث يكون سببا للاستبداد والظلم. كما تضع الليبرالية معالم سلوك الفرد الذي يجب عليه مراعاته مع بقية أفراد المجتمع، فتجعل ذلك مبنيا على عدم الإضرار بمصالح الآخرين، وعلى تحمل الفرد قسطه من الأعباء التي يفرضها الدفاع عن المجتمع.
ولا شك أن أهم ما يميز النظرية السياسية الليبرالية هو مراعاة الحريات الفردية خاصة حرية الفكر والرأي والتعبير. فالليبرالية تنطلق في الأساس من قيمة الحرية على أنها قيمة مقدسة لا تناقش، فلذلك يجب على الدولة حفظ الحريات، خاصة حرية الفكر والرأي والتعبير، لأن ذلك هو الضمان اللازم لحماية الفرد من استبداد الحكومات ومفاسدها.
ومن ضرورات المذهب الليبرالي: أن وجود الخلاف، والتعددية في الآراء والأفكار ظاهرة إيجابية تنمي الفكر وتقوي الرأي، وتظهر الإبداع. ويلزم من ذلك أيضا تأكيد مبدأ “النسبية”، فإن دعوى امتلاك “الحقيقة المطلقة” يمنع من التفكير الحر. وهذا مما سنعرض له عند بحث العلاقة بين الليبرالية والإسلام، انطلاقا من التعارض بين الإيمان المطلق والفكر الليبرالي النسبي.
وأيضا من لوازم حرية الفكر القول بـ”التسامح الديني”، الذي ظهر عقب الإصلاح الديني وما تلاه من الحروب الدينية، فصار “التسامح الديني” أحد أسس “المذهب الليبرالي”. والتسامح يعني الاعتراف بالآخر، وعدم الجزم في الأفكار، واحتمال صواب المخالف؛ وكل ذلك مما ينافي أصولا إسلامية كبرى كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *