الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي (3) عبد الرحمان بنويس

في العدد السابق من هذا الموضوع، تناولت الصنعة التعليمية في القضايا التالية:
المعلم وتربية الناشئة على الدين وأثر ذلك على الشخصية المسلمة، ودور المربي في ترسيخ القيم في الفطر السليمة كإحدى الأدوات التعليمية المهمة، وختمت بحنكة المعلم في تنزيل العلم إلى سلوك عملي، وفي هذا العدد أركز على الدعائم النفسية التحفيزية وأثرها في الصنعة التعليمية، وأختم بتمثلات التلاميذ وأهدافهم وعملهم على ترجمتها إلى حقيقة واقعية.
ماذا تمثل الصنعة التعليمية؟
إن الحديث عن الصنعة التعليمية بهذا المفهوم التربوي وبعد إدراك قيمة المهام المهنية والعلمية للتدريس، تتطلب من المدرس تقريب المتعلم إليه، وسقيه من حنان علمه، وتزويده من خالص أدبه، وفي قصة أم مالك رحمهما الله ما يعبر عن أثر ذلك: “أنظر إلى أدب ربيعة قبل أن تأخذ من علمه”، وقد سبق أن ذكرنا مسؤولية المعلم في تربية القادة من التلاميذ، وتمهيرهم التعلم كصنعة تربوية، وقد حان الوقت للحديث عن الكواليس التي ينبغي أن يقوم بها المدرس في إعداد الصناع تخطيطا وتنفيذا وتقويما، وفي هذا المقام سأركز عن العنصر الأول فقط.
في المفهوم البيداغوجي يعتبر التحضير للدروس والتهيؤ السابق للعمل من موجبات المهام التي تناط بالمدرسين، وذلك لما له من مساعدة على الضبط التنزيلي للعمل في التنفيذ والتطبيق، ومن خلال التجارب المهنية فإن الإعداد يسهل تنزيل بنود الدروس والمضامين في استيعاب التلاميذ والطلبة لتحقيق الكفاية المرغوبة، فتتحول الأهداف بذلك من سلوك نظري إلى عمل واقعي. أما وأن يأتي الأستاذ إلى الحصة وهو تلميذ مجتهد فإن ذلك من شأنه أن يجعله متذبذبا في تنزيل بنود المادة غير متقين لما يمليه على أبنائه، وبالتالي سيخرج لنا صناعا مختلين، نتيجة اختلاله بتعليميه ومهامه.
ويساعد هذا الأمر، تقريب المتمدرسين إلى شخصية المربي، وهي التي أسلفنا سابقا في المقالات السابقة بذكرها ضمن “شروط التعلم والتعليم”، ومنها الرغبة والإرادة والشهوة الدائمة وغياب القواطع المذهلة، ومعرفة ذلك يسهم في أن يجعل المربي متواضعا مع تلامذته حق التواضع كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأعراب الذين أتوا من خشونة الصحراء، فيفهمهم الموضوع بالليونة والحكمة والتؤدة، مع ضرورة الانخراط في معرفة وفهم أوضاعهم والتطلع إلى أحوالهم، وبهذا النموذج يجب الاقتداء في التربية، ولذلك فقد تؤدي الضرورة إلى مساعدة ومخالطة مشاكل التلاميذ وتبني أفكارهم حتى يتجاوزوها، وقلة الاختلاط بهم ستكلفهم مغبة مسارهم الدراسي إن لم تعرضهم لمهلكات القضايا التربوية من العنف أو الانقطاع أو التشرد… وكثيرا ممن هم ضحايا هذا الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم منهم من كان قويا بذكائه، حريصا بسند أستاذه، مأمولا صانعا في مستقبله، لكن للأسف وبتهاون المسؤول المباشر عنه وتهميشه ضاع وضاعت الأمة من ورائه، وأصبح مستقبله إلى ماض يذكر ولا يرغب في الترحم عليه، لأن ذلك يشعره بنوع من الاشمئزاز والضنك.
الصنعة التعليمية تتطلب مجهودا كبيرا من المعرفة بعلم النفس وعلم الاجتماع… وكلما زاد العلم فهو فضل مساعد، وبذلك يحصل التكامل الذي أصبح يذكر في خبر كان، بعد أن رحل وأقبر من مقرراتنا ومناهجنا إلا من تنبه من الصناع فأدرجه ضمن ما يسمى بالكفايات الممتدة بإحياء الروابط بالمعارف السابقة.
فالتخصص الدقيق مطلوب لصناعة الفرد في المهام المرغوب لها، لكنه لا يفيد إن استقل عن غيره، والحالة هذه، فمن الواجب وخصوصا في مهنة الأستاذية أن يكون لهم زادا من هذه العلوم ولو من قشورها، لأن العلم كثير ويصعب تحصيل لبه في الغالب، والعمر قصير وخير ما فيه مرحلة الطلب والتعلم، والتعلم في الصغر كالنقش على الحجر، ومن هذا السبب فيمكن للتعليم أن يكون صنعة إذا اشتُغل عليه في المنظومة وجعله قالبا أولويا، لأن مما يساعد الـمُعَد للتكوين على تحديد أهدافه، دقة المرامي المصنوعة في المنهاج والتي تحددها الوزارة الوصية، والمترجم الحقيقي لتنزيلها وتطبيعها في أذهان المكوَّنين هو الأستاذ، وللممارس أن يدرك ذلك حينما يسأل عن هدف كل تلميذ، فإن الجواب أعمق من السؤال: فهذا يريد أن يكون فلكيا وهو في قريته، وهذا يريد أن يكون طيارا في قرية جبلية، وهذا أستاذا في أسرة لم تجد حتى الخبز والماء، وهذا يريد أن يكون فلاحا في أسرة غنية… والموازين تُنصب وتحتاج إلى المساعدة والانصات والإعانة لترجمتها على الواقع.
أيها المكون الصانع؛ لعلك تدرك من عوادي الزمن وتعب المهنة أن من له نفسا طويلا مع التلاميذ سيدرك أن منهم من يحتاج إلى تشجيع أمام زملائه، وتنوه بعمله، ولا فخر فأبو سفيان رضي الله عنه يحب الفخر كما في أخبار السير، فكيف للصغار وهم الجيل الصاعد وبه تتقدم الصنائع، ومن أراد التبحر في هذا الميدان فليرجع إلى كتاب “مقدمة ابن خلدون” وما حواه كتابه من الصنائع وأثر الصبيان في تعلمها.
لنعود إلى الأهداف وما تضمنته الفطر السليمة من رغبات وميول في أعماق التلاميذ، فمنهم من يحدد مهنته وهو في نعومة أظافره بأن يصبح معلما فذا أو أستاذا مجدا، وهذا النوع من شدة حبه فإنه يبقى حريصا متابعا لسلوك أستاذه مقلدا إياه في الصغيرة والكبيرة، بل منهم من يردد ما يقوله أستاذه بالحرف لأنه الشخصية المثلى التي يتمنى أن يرى نفسه عليها، وبالطبع فهذا النموذج تصدق فيه الصنعة التعليمية، وهو المأمول إلى سعيه بأخذها بجد، من خلال المواظبة على إنجاز الدروس بحيوية ونشاط، والبحث عن الأفضل وما حذاه، بل الاجتهاد أكثر من أجل تحقيق الهدف ويصبح المصنوع صانعا محترفا، وهو بهذا الصنيع قد ترجم أهدافه إلى سلوك عملي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *