مسار وسياق تطبيع الإمارات والبحرين والسودان (م.ز)

1- سياق التطبيع:

يأتي هذا التطبيع الأخير في إطار عدة سياقات:

– سياق التطبيع السابق:

ونقصد به نماذج التطبيع السابقة التي أضعفت الموقف العربي أكثر مما قوته، ونقصد بذلك: اتفاقية كامب ديفيد (1978)، اتفاق أوسلو (1993)، معاهدة وادي عربة (1994).

– سياق التفكيك والإضعاف:

وهو الواقع الذي يتخبط فيه الوطن العربي، منذ سنة 2011 وقبلها، في كل جزء منه. في المغرب العربي: مشكل ليبيا ومشاكل أخرى عالقة في كل دولة على حدة، في منطقة نهر النيل: مشكل مصر مع إثيوبيا (سد النهضة) ومشاكل السودان الداخلية (الجنوب وانتقال السلطة)، في منطقة الخليج: انقسام العراق والتهديدات المحيطة بالسعودية، في منطقة الشام: محاولات تأزيم الأردن والضغط عليها وإضعاف سوريا (بالجماعات الإرهابية، ومؤخرا بقانون قيصر) وتأزيم لبنان ومحاصرة المقاومة الجنوبية فيه… إلخ.

– سياق الانتخابات الأمريكية:

حيث يرى دونالد ترامب أن إنجاحه ل”صفقة القرن” وما يدفع في اتجاه ذلك (تطبيع ما يمكن تطبيعه من الدولة العربية)؛ قلت: يرى ترامب كل ذلك ورقة رابحة للحصول على أصوات: اليهود الأمريكيين والإنجيليين اليمينيين في أمريكا، وكذا للحصول على بعض الدعم من القنوات الإعلامية التي يمتلكها كبار “رأسماليي اليهود” في العالم. هكذا يفكر ترامب في حظه الانتخابي، وفي خطته التي ينبغي أن تكتمل لإنقاذ الرأسمال الأمريكي. في حين، تسعى بعض دول الخليج (الإمارات والبحرين) ومعها السودان (مؤخرا) إلى إنجاح مسعاه وحل بعض مشاكلها الإقليمية (أو هكذا تزعم)، على حساب “الصف العربي” و”حقوق الشعب الفلسطيني”.

– سياق الواقع الجديد ل”الكيان الصهيوني”:

حيث وعي هذا “الكيان” بمدى حاجته إلى التوغل أكثر في المنطقة، ضمانا لمصالحه، بل ووجوده. فالنفط العربي لم يعد يغري الغرب الرأسمالي أكثر من ذي قبل، وأطراف أمريكية عديدة أخذت تطالب بالعودة إلى الداخل الأمريكي ورفع اليد عن “صراع عربي-إسرائيلي” لم تنل منه أمريكا إلا مزيدا من التراجع أمام الصين (بالرغم مما أدى إليه التدخل الأمريكي من إضعاف للوطن العربي، إلا أن الواقع غير الواقع، وما كان من أجله التدخل قد تم أغلبه). ولهذا، يتخوف “الكيان الصهيوني” من أن يبقى معزولا في الوطن العربي، محاطا بدول تعاديه، ومقاومة مسلحة تتربص به الدوائر. فكانت “صفقة القرن” وكان “التطبيع”، وذلك بمثابة إرضاء ل”الكيان” حتى يتم التفرغ للشأن الداخلي الأمريكي.

… إلخ.

هذه هي أهم السياقات التي جاء التطبيع الأخير في إطارها.

2-مسار التطبيع:

أما مسار التطبيع، فقد تمّ عبر خطوات:

– الخطوة الأولى: التطبيع غير الرسمي

وهو تعاون تحت الطاولة، يكون سابقا على التطبيع الرسمي، ويشمل مجالات الاقتصاد والمخابرات والتنسيق العسكري والجيوستراتيجي والثقافي. وتلك خطوة بدأتها الإمارات منذ سنوات، وكانت على المستوى الثقافي والسياسي أكثر وضوحا. ثقافيا، بتمويل مراكز التفكيك واللامعنى في عدة دول عربية (“مؤمنون بلا حدود”، في المغرب وتونس ومصر). وسياسيا، بخوض معارك بالوكالة مع الأنظمة الممانعة (العراق، ليبيا، سوريا). وإيديولوجيا، بتشويه سمعة “المقاومة الإسلامية” في كل من غزة وجنوب لبنان، بالتزهيد في خطابها والطعن فيها بالإرهاب… إلخ.

– الخطوة الثانية: الإعلان عن “صفقة القرن”

فقد سبق هذا الإعلانُ التطبيعَ الأخير، جسّا لنبض الشعوب والأنظمة العربية. وفي التسويق له، تم الحديث عنه كمشروع كبير للسلام، يخدم مصالح “الكيان الصهيوني” والوطن العربي معا. فكان ذلك بمثابة تمهيد للتطبيع، وبحث عن القابلية له لدى الشعوب والأنظمة.

الخطوة الثالثة: ممارسة ضغوط بالنيابة على الدولة التي رفضت “صفقة القرن”

وهو ما حدث بتحريض الشارع الأردني واستغلال مشاكله الاجتماعية للضغط على ملك الأردن، وحصل أيضا مع المغرب من خلال “هجومات إلكترونية” متكررة، والضغط على مصر بمشكل سد النهضة مع إثيوبيا… إلخ.

– الخطوة الرابعة: الإعلان عن التطبيع بشكل رسمي ومتدرج

فأعلنت الإمارات تطبيعها الرسمي بداية، ثم شرع الإعلام الأمريكي والخليجي في التلويح بالتحاق دول أخرى، وكأن الأمر لم يكن مُعَدّا سلفا. والغرض من ذلك، كان هو: تلافي انتفاضة الشارع العربي في حالة ما إذا تمّ التطبيع بشكل جماعي ملفت، إظهار عملية التطبيع وكأنها خيار لا بد منه ولا مفر منه، اعتياد الشعوب العربية على “التطبيع” كعملية تتكرر كلّ مرّة ولا تخلف سخطا كبيرا (وهو ما يمكن تسميته “التطبيع مع التطبيع”)، تشجيع دول أخرى على التطبيع بعد أن تكون الشعوب قد اعتادت و”طبعت مع التطبيع”… إلخ.

– الخطوة الخامسة: التسويق الإعلامي لخطوة “التطبيع” وتبريرها بكل المبررات الفقهية والاقتصادية والسياسية وغيرها

بواسطة: الإعلام الوظيفي الذي أخذ يعدّد المكاسب التي ستتحقق للدول المطبِّعة، السياسيين الذين تبنوا تحليلات تم تصنيعها في المختبرات الصهيونية منذ زمن بعيد، الفقهاء الذي برعوا في الحديث عن “السلم والسلام” في خضمّ حرب قائم، يروح ضحيتها العرب والمسلمون قبل غيرهم، كل يوم، المحللين الاقتصاديين العملاء والذين باعوا أنفسهم للرأسمال الأجنبي… إلخ.

– الخطوة السادسة: الدخول في مسار من الإغراءات والتهديدات والضغوطات، لتنخرط في هذه العملية دول أخرى، أو لتبقى على الحياد من ذلك على الأقل

وإلا فلماذا صمتت السعودية، إلا ما صدر منها من تلميحات هنا وهناك؟

ولماذا سارعت عمان ومصر إلى التهنئة؟

ولماذا ما تزال دول عربية تلزم “الحياد” إلى يومنا هذا؟

ولماذا كان موقف “جامعة الدول العربية” ضعيفا لا يعبر عن مدى صعوبة المرحلة التي تمر منها القضية الفلسطينية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *