عناية الإسلام بالقراءة طارق برغاني

لم تشهد البشرية منذ بداية الخليقة دينا، أشد حرصا وأكثر دعوة إلى القراءة والاهتمام بها والسعي إلى التعلم والحث عليه من دين الإسلام، فبالقراءة يقاس مدى وعي الأمم وتحضرها؛ وبحب الكتب والولع بها يظهر رقي الشعوب وإشعاع فكرها؛ ويظهر هذا الحرص من خلال نصوص الوحي الإلهي والسنة النبوية، فنجد القرآن الكريم في أول آياته نزولا، بل في أول كلمة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي كلمة “إقرأ”، والقرآن يأمر بالقراءة ويوجب التمسك بها؛ وتكرر هذا الأمر مرتين في مطلع سورة العلق، يقول الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} العلق.
يقول القرطبي: (أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه… أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير القارئ… وقوله تعالى: {اقْرَأْ} الثانية: تأكيد) تفسير القرطبي 20/119.
وقد جاء الفعل في هذه الآية بصيغة الأمر، ومن المعلوم عند الأصوليين أن الأمر يفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك، فتكون الغاية المتوخاة والمقصد المراد هنا يقتضي الوجوب والتأكيد، ومما يزيد معنى الدعوة إلى القراءة والحث عليها أهميةً في الآية الكريمة ما صاحب نزولها من مواقف؛ وما لازم تبليغها للنبي صلى الله عليه وسلم من أسلوب تلقيني خاص من قبل جبريل عليه الصلاة والسلام؛ حتى بلغ فيه حد الشدة والجهد، في كل مرة يتوقف فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستجابة له، مرددا: “ما أنا بقارئ”، ولعل ما تطلب استعمال هذا الأسلوب الشديد والمجهد في هذا الموقف، ما يتسم به قدر الرسالة من عظم، وما يختص به القول الملقى على النبي صلى الله عليه وسلم من ثقل، يقول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً} المزمل:5، فاستدعى المقام من جبريل تكرار هذا الأمر ثلاث مرات، وبعد كل مرة يغطّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره حتى يبلغ منه الجهد، حتى إذا أرسله بعد الغطة الثالثة، استرسل جبريل عليه السلام في إقراء النبي صلى الله عليه وسلم أول آيات الوحي الإلهي، فكانت نورا يضيء للناس طريق الهدى ونبراسا ينير للبشرية سبيل الرشاد.
وتروي لنا عائشة رضي الله عنها هذا الموقف فتقول: “أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك؛ ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها؛ حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، حديث 3.
إن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود؛ وكتابه سبحانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما أنزل على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلا لنتعبد بتلاوته؛ ونصدق بما جاء به؛ ونعمل بما ورد فيه من شرائع وأحكام وتعاليم، ولا تتحقق هذه الغاية العظمى إلا بتدبره وفهم معانيه، ولا يتحقق هذا المقصد بدوره من دون قراءة آياته قراءة سليمة، وكذا قراءة سنة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها مفسرة وشارحة له، وقراءة أقوال الصحابة والتابعين والعلماء من بعدهم، فتصير هذه القراءة مفتاحا أصيلا ووسيلة لا غنى عنها لفتح الباب إلى ما يليها من علم ومعرفة، وبالتالي إلى ما هو أسمى وأرقى وهو الرشاد والهداية والتفريق بين الحق والباطل يقول الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} القيامة:17-19.
إضافة إلى كل ذلك؛ فإن لفظ القرآن الكريم يستمد اسمه من القراءة يقول ابن منظور: “وَقَرأْتُ الكتابَ قِراءة وقُرْآناً ومنه سمي القرآن… والأَصل في هذه اللفظة الجمع”. لسان العرب 1/128. كما أن هذا اللفظ يشير في حقيقته إلى وجوب اقتران كلام الله تعالى بالتدرج وعدم الانقطاع مع المواظبة على قراءته، يقول تعالى: “وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً” الإسراء:106، قال ابن كثير: “على مكث: على مهل” تفسير القرآن العظيم لابن كثير5/127.
وقد اشتكى رسولنا صلى الله عليه وسلم هجر القرآن إلى ربه، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} الفرقان:30. وهذا يظهر تماما ضرورة المحافظة على قراءة القرآن باعتبارها عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وأهمية التدرب وتربية النفس على قراءة ما يفيد في الدين والدنيا عموما، ولزوم التعود عليها.
ويرشدنا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى العناية بالقراءة والحرص عليها، لما علم في كتب السيرة وغيرها من قرار إطلاق سراح كل أسير من أسرى بدر، مقابل تعليم عشرة من أبناء الأنصار القراءة والكتابة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فدى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة “. فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار 2/1035.
ومما يشهد على رفعة قدر القراءة وعلو شأنها، ما وصل إليه المسلمون من رقي حضاري وإشعاع فكري وازدهار علمي متميز، في الأندلس وبغداد ودمشق والقاهرة وغيرها، تجلى في الانتشار الواسع للمكتبات العظيمة والجامعات الشامخة، التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، فكان ذلك ثمرة حرص المسلمين على القراءة وإدراك قيمتها والعكوف على الكتب والشغف بها، فازدهرت عملية الترجمة والتأليف والمراجعة والتنقيح، فنبغ المسلمون في شتى فروع العلوم الشرعية والعقلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *