إضافة إلى الجهل بالشريعة -في جميع أبوابها وفنونها وكلياتها ومقاصدها- مع حب الرياسة والظهور؛ فإن من جملة الأسباب التي حملت أصحاب بدعة الجرح والتجريح على الوقيعة بكل حماسة في أعراض العلماء والدعاة إلى الله ما يلي:
ثالثا: اتباع الهوى
والهوى بلية عظيمة متى أصيب بها الإنسان أعمته وأصمته فلا ينصف غيره من الناس متى خالفوه في شيء ولو كان يسيرا، وهذا ما نراه في أصحابنا الجراحين؛ كل من خالفهم في منهجهم (التجريحي)، فهو مجروح حلال عرضه ، وذلك لأنهم أشربوا في قلوبهم الهوى فلا يخرج منها شيء غير الهوى، أما ما تمليه قواعد الشريعة والنظر المصلحي وسلامة التفكير فمطروح عندهم منبوذ بالعراء، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}الجاثية23.
ودونك أيها القارئ الكريم الدليل القاطع والبرهان الساطع على كون هؤلاء الجراحين من أهل الأهواء:
1- الغلو في التجريح إلى درجة البغي والعدوان: وهذا من الأراجيف الموصولة بحبل المبتدعة أهل الأهواء في كل زمان ومكان، وقد قرر العلماء رحمة الله عليهم في علم الجرح والتعديل أنه: لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة ولا الاكتفاء بنقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل، بل لا بد من نقل ما يتعلق بتعديله أيضا ، وهنا يظهر لك مدى تعلق الجراحين بحبل الهوى والاستمساك به حينما يرمون علماء كالجبال الرواسي ممن لهم اليد البيضاء في الذود عن حياض السنة ونشرها في أقطار الدنيا بسبب بعض الظنون الكاذبة التي يروج لها في وسائل الإعلام.
وهنا أمسك القلم عن الكتابة بعض الدقائق -وما أراه إلا وهو يدعو معي- ترحما على روح شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال كلمته الشهيرة في حق أهل السنة تمييزا لهم عن أهل الأهواء، فقال رحمه الله: “أهل السنة أعلم بالحق وأرحم بالخلق”، فأين الرحمة -يرحمك الله- في هذا المنهج حتى نحكم لأصحابه بالانتساب إلى السنة والسلفية قبح الله الهوى.
أسكرتهم مع الهوى شهوات ورمتهم في تيهها جهالا
فنسوا غاية الحياة وضجـــوا بين ساحات لهوهم أرتالا
2- التجريح بدون ضوابط علم الجرح والتعديل: ومعلوم أن الأئمة رحمهم الله قد وضعوا للجرح والتعديل شروطا وضوابط منها ما يرجع إلى الجارح ومنها ما يرجع إلى المجروح ومنها ما يرجع إلى سبب التجريح، والذي يهمنا الآن هو ما يتعلق منها بالجارح ، فقد قرروا أن الجرح والتعديل لا يحصل إلا من أهله؛ فكم من عالم لم يسلموا له أن يعدل أحدا أو يجرحه وهو في زمن الرواية الذي احتاج فيه الناس إلى هذا الفن أيما احتياج، بل إن منهم من انتهت إليه الرياسة في ذلك وما قبلوا منه أشياء من تجريحاته، فهذا يحيى بن معين -وهو من هو- يقول في الشافعي: “إنه ليس بثقة” فأنكر الإمام أحمد قوله وقال: “من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي، هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقوله الشافعي ومن جهل شيئا عاداه” .
وبعد هذا فلا عليك أن ترى -ونحن في آخر الزمان- كل بقال وجزار وخضار وخراز وبائع “البابوش” وغيرهم ممن ليسوا من أهل هذا الفن يتكلمون في علماء الأمة تجريحا وتعديلا، {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فاطر43.
وإن ترفع الوضعاء يوما على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي فــــقــد طابت منادمة المنايا
ولندع الحافظ الذهبي رحمه الله يخبرنا عما يجب توفره من الشرائط في من يتصدى لفن الجرح والتعديل، وكأننا نسأله عن ذلك فيقول: “ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان، وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد
قال تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، فإن أنست من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي أو لمذهب فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك” .
وأين أصحابنا من كلام الذهبي هذا رحمه الله، أم لهم (قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا…).
3- التجريح بدون برهان: وذلك أن أغلب تجريحات هؤلاء القصابين مبنية على ظنون لا تغني من الحق شيئا، أصح ما تبنى عليه عمومات أو إطلاقات أو إجمالات من كلام من يراد تجريحه، وربما عمدوا إلى الكذب عليه فلفقوا من كلامه أو بتروا منه حسب أهوائهم، وهذه نكل أمرهم فيها إلى الله، فكلامنا ليس موجها إلى من لا يخشى الله جل في علاه .
4- تصيد عثرات الفضلاء واصطياد زلاتهم وسقطاتهم: ولا شك أن كل إنسان لا بد أن تبدر منه سوءة إلا من عصم بالوحي فيسدد اجتهاده، مصداقا لقول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ، ولهذا تجد الأئمة الراسخين في العلم منذ فجر الإسلام يغضون الطرف عن عثرات بعضهم البعض خاصة إذا كانت في الفروع المبنية على الاجتهاد المصلحي كما هي الحال بالنسبة لأغلب مؤاخذات هؤلاء الجراحين؛ فإنها لا تبرح دائرة ما تختلف فيه عادة أنظار أهل العلم وطلبته، وهذا ما قرره الذهبي رحمه الله حيث قال: “ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه” .
وما يثير الغرابة في أمر هؤلاء الجراحين أن لا يعلموا أنهم أول من سيطعن بخنجر منهجهم هذا، اللهم إن كانوا يعتقدون أنهم أنبياء ورسل معصومون أو ملائكة يمشون على الأرض، أما وهم بلا شك غير ذلك فلهم أخطاء وعثرات لو تتبعناها لاستخرجنا منها ما يندى له الجبين.
5- غياب النصح والإرشاد في ردودهم: وهذه أيضا واحدة من العلامات الدالة على أن أصحابنا تتحكم فيهم أهواؤهم ولا يتحكمون فيها، وذلك أن ردودهم وتجريحاتهم تكاد تكون خالية من النصح والإرشاد بالحكمة واللين والرفق كما هو مقرر ومعروف في المنهج النبوي السلفي، وإذا لم يكن هذا من الهوى فقل لي بربك ماذا يكون؟
ومن الأدلة كذلك على كون الجراحين من أصحاب الأهواء أنهم يجعلون الخلافات الدنيوية المحضة من العلل التي توجب تجريح المخالف والقدح فيه، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على جلالة هذا العلم الشريف ومكانته؛ أعني علم “الجرح والتجريح” الذي اخترعه علماؤنا الجراحون، وحيث إن هذه الخلافات من الأسباب التي تحمل أصحابنا على التجريح، فلنجعل ذلك سببا من الأسباب التي تحملهم على الوقيعة في العلماء نتكلم عليه منفردا في مقالة أخرى، لكن بعد سفرة سنسافرها إن شاء الله تعالى، فإن أحكام المسافر الشرعية والعرفية أحكام مخصوصة.
يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا واجعل معونتك الحسنى لنا مددا
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.