دجنبر 1952.. حين انتفض المغاربة ضدّ الإرهاب الامبريالي الفرنسي

بمرور يوم سابع دجنبر الأسبوع الماضي تكون قد مرت 63 سنة عن “انتفاضة 7 و8 دجنبر 1952 بالدار البيضاء” ضد الاحتلال الفرنسي، حين هبت ساكنة المدينة ثائرة في وجه قوى الحماية بعد جريمة اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، يوم الجمعة 5 دجنبر 1952. وهي انتفاضة أكد من خلالها الشعب المغربي تشبعه بقيم التضامن مع باقي الشعوب المغاربية في نضالاتها ضد قوى الاستعمار الغربية، وتوقها إلى الحرية والاستقلال وبناء المغرب الكبير.
واعتبارا لحجم هذه الانتفاضة، والأبعاد التي اتخذتها على المستويين الإقليمي والدولي، فقد شكلت بنظر العديد من المتابعين، منعطفا حقيقيا في تاريخ كفاح الشعوب المغاربية، والعمالية على الخصوص، إذ كانت المنطلق لبناء عمل نقابي وحدوي، جمع إرادة الشعوب ووحد تطلعاتها نحو وطن مغاربي بلا حدود.
وكانت انطلاقة هذه الهبة الجماهيرية مباشرة، بعد أن بلغ إلى الدار البيضاء بعد زوال يوم الجمعة 5 دجنبر 1952، نبأ اغتيال النقابي التونسي وزعيم الحركة النقابية بشمال إفريقيا، فرحات حشاد، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي نذر حياته للنضال في سبيل إرساء دعائم العدالة الاجتماعية، وتثبيت الحقوق النقابية والسياسية، وضمان ممارستها بالمنطقة المغاربية.
الواقعة ارتبطت برائد من رواد الحركة العمالية أرسى قواعد العمل النقابي المناضل، وعمل بقوة من أجل تأسيس اتحاد نقابي على مستوى شمال إفريقيا، يجمع كل النقابات التي نشأت بالمغرب والجزائر وليبيا. فكان أن ترصد الإرهاب الاستعماري لهذا المناضل الوطني والنقابي الشهم، صباح ذاك اليوم، لإخماد أنفاسه، ظنا منه أنه بتصفية هذه الشخصية الفذة، القوية بنضالها وديناميتها وإيمانها ومكانتها وإشعاعها على الساحة النقابية، محليا وجهويا وقاريا وعالميا، ستضع حدا للمد التحريري المغاربي .. إلا أنها زادته اتقادا.
هذه الجريمة كانت بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الغضب والاستنكار في الأوساط الشعبية، جراء الفظاعات التي يرتكبها المحتل في حق الساكنة، من مصادرة للأراضي وتشريد للأسر واعتقال للمناهضين لسياسته، ومصادرة للحريات العامة الفردية والجماعية ولحقوق الإنسان. فكانت التعبئة العامة داخل أحياء الدار البيضاء، وساهم المناضلون الوطنيون والنقابيون في هذه العملية، عبر توزيع المناشير وكتابة الشعارات الحماسية على الجدران، مع مساهمة وازنة من وسائل الإعلام المتاحة آنذاك.
وجاء بجريدة “العلم”، صباح يوم الأحد 7 دجنبر، أن “الطبقة العاملة وشعوب إفريقيا الشمالية في حداد عميق بسبب الاغتيال الفظيع والوحشي الذي تعرض له أخونا وزعيمنا فرحات حشاد (…) إن أخانا الفقيد معروف في العالم بصفته رمزا للحرية الوطنية والديمقراطية والاجتماعية”، معتبرة أن الاستعمار، باقترافه هذه الجريمة، كشف “وجهه الدنيء وبرز مرة أخرى بما هو عدو الحرية والتقدم والديمقراطية”.
وبعد سرد انتهاكات الحرية وما يعانيه عمال المغرب من أشكال ظلم ذكرت أن “الاتحاد العام للنقابات المغربية، المعبر الأمين عن مشاعر الطبقة العاملة، يدعو كل العمال ومختلف شرائح الشعب المغربي لجعل يوم 8 دجنبر 1952 يوم حداد وطني، ويدعو إلى يوم إضراب وطني 24 ساعة، في هذا اليوم، للاحتجاج على اغتيال المرحوم فرحات حشاد، والمطالبة بتدخل منظمة الأمم المتحدة في الصراع بين الشعبين التونسي والمغربي من جهة، و الحكومة الفرنسية من جهة أخرى”.
وفي صباح يوم الأحد 7 دجنبر من سنة 1952 اجتمع حوالي 2000 عامل بشارع “لاسال”، المسمى حاليا شارع فرحات حشاد، لتشتعل المواجهات مع الشرطة مساءً، وتستمر إلى حدود العاشرة ليلا، والتي استعمل فيها الرصاص الحي، ثم بعد تعاظم الحشود تدخلت قوات “الكوم”، متسببة في العديد من القتلى والجرحى تلك الليلة. وعلى الساعة الثانية صباحا من يوم الاثنين فرضت قوات الاستعمار نوعا من الهدوء، بعد محاصرتها لـ”كريان سنطرال” بالمدفعيات الثقيلة، لكن ذلك لم يمنع من اشتعال المواجهات من جديد مع حلول الساعة التاسعة من صباح نفس اليوم، ليرتفع عدد الضحايا.
القوات الاستعمارية حاصرت العمال المتجمعين بدار النقابات، وعرضتهم لشتى أنواع التنكيل والتعذيب، واعتقلت المئات منهم وزجت بهم في غياهب السجون، وسخرت عصاباتها المدججة بمختلف أنواع الأسلحة لمواجهة المتظاهرين العزل والبطش بهم، ومهاجمة مواكب جنائز الشهداء وجثامينهم الطاهرة في تحد سافر وخرق صارخ لأبسط حقوق الإنسان والحريات العامة.
وقد دفعت الجماهير ثمن انتفاضاتها واحتجاجاتها، فكانت الحصيلة كارثية بسقوط عشرات الضحايا الأبرياء تحت رصاص البوليس الاستعماري، غير أن هذه الأحداث لم تكن إلا حافزا لتجذير الحس الوطني، وتعميق البعد النضالي في صفوف الجماهير الشعبية، وترسيخ العمل النقابي وتنظيمه وتوسيع دائرة ممارسته كآلية لنشر الوعي السياسي والتحريض على مقاومة المستعمر، وقد تكلل هذا المسار التحرري بتولي عدد من الأقطاب المتمرسين بالحركة النقابية قيادة الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري عند اندلاع ملحمة ثورة الملك والشعب المجيدة.
مرت على هذه المحطة التاريخية البطولية ثلاث وستون سنة، وكلما تم استحضارها أدرك الجميع أهمية الكفاح المشترك كسبيل أوحد لصون المقدسات الدينية والثوابت الوطنية. بينما يكتسي تخليد هذه الذكرى الغراء صبغة خاصة هذه السنة، من حيث أنه يندرج في سياق أجواء التعبئة الوطنية العامة حول القضية الوطنية الأولى، غداة الخطاب التاريخي للملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 40 للمسيرة الخضراء، والذي حمل إشارات قوية ورسائل بليغة تؤكد تجند المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، لصيانة وحدته الترابية وتثبيت مكاسبه الوطنية، في أفق تعزيز الجهوية المتقدمة والموسعة، وإرساء النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية.
كما تؤكد الذكرى حرص المغرب على الحفاظ على علاقات قوية وبناءة مع باقي بلدان المنطقة المغاربية، واستعداده الدائم للتعاضد والتضامن مع الأشقاء في أفق ترسيخ الوحدة المغاربية، والسعي لتدارك الفرص الضائعة، وتجاوز النزاعات المجانية التي ظلت تقف حجر عثرة في وجه إقلاع اقتصادي حقيقي بمنطقة المغرب الكبير.
وهو التوجه الذي تأكد مع خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش، بعد أن جدد التعبير عن إرادة المملكة الراسخة في “بناء اتحاد قوي، عماده علاقات ثنائية متينة، ومشاريع اقتصادية اندماجية”، قائلا “إننا نؤمن بأن الخلاف ليس قدرا محتوما، وهو أمر طبيعي في كل التجمعات. فالاتحاد الأوروبي مثلا، كان ولا يزال يعرف بعض الخلافات بين أعضائه. إلا أنها لا تصل حد القطيعة. غير أن ما يبعث على الأسف هو التمادي في الخلاف لتعطيل مسيرة الاتحاد المغاربي”.
انتفاضة الدار البيضاء هي عنوان للآمال التي ظلت الشعوب المغاربية تتطلع إليها، منذ عدة عقود، بتحقيق الوحدة والتكامل، والتي ظلت مجرد مشروع يتأجل باستمرار جراء نزاعات هامشية مفتعلة، ومواقف مزاجية، وأطماع وهمية لفرض الهيمنة والتوسع في منطقة المغرب الكبير.
كما أن الموعد يعدّ وقفة تضامنية حفظها أهل “تونس الخضراء” للمغاربة، إذ في الخطاب الذي ألقاه رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي، مصطفى بن جعفر، في 31 ماي 2014 ، ترحيبا بالملك محمد السادس الذي ألقى خطابا هاما أمام أعضاء المجلس، أكد أن “تونس لا تنسى أبدا الموقف النضالي العظيم للمغفور له محمد الخامس، وتضامنه المطلق مع تونس، وننحني بخشوع لشهداء الدار البيضاء الذين سقطوا برصاص الاستعمار الفرنسي يومي 7 و8 دجنبر 1952 بعد أن هب مواطنو ومواطنات الدار البيضاء في انتفاضة عارمة على الآلة الاستعمارية الغاشمة استنكارا للاغتيال الفظيع والوحشي للزعيم فرحات حشاد”، (و.م.ع).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *