ثارت حفيظة العلمانيين ضد الظهور الجديد لبعض العلماء الذين كانوا ضحية ممارسات الاستبداد والإقصاء.
وبعد أن كان أولئك العلمانيون يرفعون لواء الدعوة إلى الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، لما كان المعنيون بها الملاحدة والإباحيون؛ من شواذ و وكالين رمضان وساخرين من الدين؛ أضحوا اليوم ينددون بحرية التعبير التي مارسها الدعاة الإسلاميون الذين طالبوا بتفعيل إسلامية الدولة من خلال إرجاع الاعتبار للشريعة الإسلامية، وتقديم أحكامها على ما يعارضها من توصيات المواثيق الدولية، وجندوا أقلامهم لتصوير هذا التوجه الإسلامي بمظهر (البعبع) و(الغول) الذي يريد التهام مكاسب الديمقراطية والحرية، ويبدد أحلام مغرب التقدم والتنمية..
ولم يجدوا بدا من الرجوع إلى قاموسهم البائد ليغترفوا منه ألفاظ العنجهية والاستئساد، التي درجوا على استعمالها ضد الدين والمتدينين: (خطاب التطرف، أحكام دينية متشددة، الدعوة إلى الكراهية، اغتصاب الطفولة، أعداء الديمقراطية وحقوق الإنسان، خطاب التكفير، دينامية أصولية..) إلـخ.
إنها المصطلحات (الكلاسيكية) التي أنتجتها “الأجهزة الاستعمارية الغربية التي تشرف على توجيه الإعلام الغربي، ووضع الصيغ والمصطلحات النفسية والاجتماعية الملائمة لمخططاتها السياسية في الوطن العربي”؛ لتحصن بها علمانيتها ضد عدوها اللدود: (الدين).
وقد استنسخت هذا المفهوم “الأجيال العربية ـ الإسلامية التي تعلمت في الغرب، أو درست في أوطانها في المدارس الغربية، أو طبقت المناهج الغربية على مستوى السياسة والإعلام والثقافة والفن..
وهذا هو سر انسياقها وتبعيتها، بوعي أو بدون وعي، مع التيارات المادية للفكر اللاديني الغربي، ووقوفها من قضية الدين ببلادها موقف العداء أو اللامبالاة”.
وهكذا تسربت إلى إعلامنا؛ عبارة “التطرف الديني” ومشتقاتها بسهولة ويسر عبر وسائل الإعلام الغربية، فسهلت على الكتاب والمحللين للأحداث مهمتهم، بل هي توجههم أو توحي إليهم على الأقل بنقطة الانطلاق في تفسير الظاهرة الإسلامية الجديدة، وإعطائها وصفا معينا لهدف خاص.
وهذه هي المنهجية التي اعتمدتها العلمانية في المغرب منذ عقود، ورجعت إليها -هذه الأيام- لمواجهة ما تراه مدا إسلاميا يهدد كيانها..
ومن هنا جاء عنوان “الأحداث المغربية” (ع 4334): (خطاب التطرف الديني يعود إلى الواجهة).
وهي المنهجية التي اعتمدتها جمعية (بيت الحكمة) العلمانية؛ -إحدى الأذرع الحقوقية لحزب الأصالة والمعاصرة- في بيانها الخطير الذي انتقدت فيه كون حركة التوحيد والإصلاح تجعل “سمو الاتفاقيات الدولية على القوانين والتشريعات الوطنية”؛ أمرا يمكن الاتفاق والاختلاف معه!
و”التأكيد على حق التحفظ عند وجود معارضة صريحة لمبادئ الإسلام”.
ووجوب “توسيع الرقابة حول ما يتعارض من قوانين مع المرجعية الإسلامية عبر دسترة رقابة المجلس الدستوري على القوانين للنظر في عدم تعارضها مع الأحكام القطعية في الإسلام”.
وتصف هذه المطالب الشرعية؛ بأنها “أفكار لا تدل على استعداد لاجتهاد فعلي يختلف عن مواقف التطرف والغلو المعلنة من قبل السلفيين المتشددين، كما أنها نوع من الالتفاف على مشروع الدستور الديمقراطي المقبل، حيث ستؤدي في حالة تطبيقها إلى عرقلة دولة القانون؛ وشرعنة المس بالحقوق والحريات الأساسية، بينما الأجدى ليس هو التمسك بالنصوص كغاية في حد ذاتها، بل هو السعي إلى تحقيق الكرامة الإنسانية وإحقاق الحقوق كما هي متعارف عليها اليوم، عوض البحث عن تبريرات في المرجعية الدينية بقراءة ماضوية من أجل خرق الحقوق وتكريس الميز بكل أنواعه” اهـ
وهكذا تصرح هذه الجمعية العلمانية بأن التمسك بالنصوص لا ينبغي أن يكون غاية، وأن تقديم أحكام الشريعة على الاتفاقيات الدولية ينبثق عن قراءة ماضوية..
وثالثة الأثافي مقالة “الأحداث المغربية” (ع 4336): (ورش الإصلاح الدستوري بتأطير أصولي)، التي اشتكى كاتبها من استقبال اللجنة الدستورية لبعض الجمعيات من قبيل حركة التوحيد والإصلاح وجمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية..
وهو الموقف الذي استنبط منه أننا أصبحنا “لا نلمس الفرق بين المجلس العلمي الأعلى -وقد أصبح جزءا من أزمة الحقل الديني- وهذه الجمعيات والمغراوي والفزازي”.
قال كاتبه: أي أن الدولة في المغرب أصبحت أمام هذه الكتلة الأصولية، بدون علماء إذا ما حصرنا الرؤية في أصحاب بيان 30 مارس بيان ذكرى يوم الأرض، لكنها الأرض الموعودة فيما يبدو، للزحف الأصولي في المغرب لعرقلة كل أوراش الإصلاح، لأن هذه الأوراش تتم انطلاقا من روح التجديد والاجتهاد الذي تبلوره إمارة المؤمنين عندنا، وهو ما يحرج العديد من الأطراف؛ وهنا نلفت الانتباه إلى أن البلاغ الصحفي المجمل للقاء اللجنة الدستورية مع ما سماه حصريا بـ”الجمعيات العاملة في الحقل الديني” يضعنا على سكة أول الاختراقات المنجزة للتأطير الأصولي لورش الإصلاح الدستوري، إنها أول فتوحات مطلب الوصاية على حقل إمارة المؤمنين، لجمعيات ليست فاعلة في الحقل الديني بالمفهوم الوظيفي، بل همها الوحيد، احتكار القرار الديني..
إنه من حق اللجنة الدستورية أن تستقبل من تشاء بما يحقق مقاصد خطاب 9 مارس وتطلعات القوى الحية في البلاد، أما أن يتم توصيف بعض الفاعلين بغير ما اكتسبوا، كما هو الحال هنا فهذا من الاختراقات الأولى لمناعة الدولة”اهـ
هذه نماذج ثلاثة لانتفاضة بعض العلمانيين ضد ما يبدو انفتاحا على العلماء والدعاة الإسلاميين، وضد اتفاق هؤلاء على مطالب شرعية تهدف إلى ترسيخ الهوية الإسلامية للبلد، وهذه مواقف صريحة تعبر عن رؤيتهم الإقصائية التي ترفض أن يكون لأولئك العلماء رأي يُدلون به في أوراش الإصلاح التي فتحت في المغرب، وهم بهذا يؤكدون وفاءهم لمنظري (الإسلاموفوبيا)، وإخلاصهم لسياسة (إقصاء الإسلام) عن طريق التخويف منه، واعتبار دعاته دعاة الماضوية وأعداء الإصلاح وحقوق الإنسان..
ومن سوء حظ هؤلاء أن هذا التوجه انكشفت حقيقته وعرفت قصته كاملة بسقوط (بن علي) ونظامه، وسيكون من بلادة العلمانيين المغاربة أن يستمروا في العزف على وتره، والرقص على نغمه..
ولن يحتاج المنصف إلى ذكاء خارق ليصنف أصحاب هذا التوجه؛ هل هم مع الحركة الإصلاحية التي يشهدها العالم الإسلامي، -والمغرب جزء منه- أم أنهم ينتمون إلى فصيلة الفاسدين الاستبداديين الإقصائيين الذين استنزفوا خيرات الأمة، وحاربوا دينها باسم مواجهة الإرهاب والتطرف والانغلاق.
كما أنه لن يحتاج إلى قوة الملاحظة؛ ليدرك أن هؤلاء يمثلون طلائع جيوب المقاومة التي تريد الوقوف في وجه الإصلاح الذي انخرط فيه المغرب ملكا وشعبا، والذي لا يقبل أبدا ما نراه من ممارسات لبعض أجهزة الدولة، التي تنسجم مع ذاك النفس الإستئصالي؛ فوزارة الأوقاف توقف الشيخ نهاري خطيب مسجد الكوثر بوجدة، لأنه انتقد وزيرة الأسرة والتنمية والتضامن الاجتماعي، ووزارة الداخلية تعتقل الأستاذ رشيد نيني لأنه دعا إلى إلغاء قانون الإرهاب، ووقف في وجه الفساد والمفسدين، وفضح سبيل المجرمين، وقبل هذا لم تتخذ الدولة ما يكفي من إجراءات تدل على انخراطها الكامل في مسلسل الإصلاح، (السجون لا تزال مكتظة بالمظلومين، رموز الفساد يصولون ويجولون، دور القرآن لا تزال مغلقة ..إلـخ).
فهل سينتصردعاة الإصلاح على جيوب المقاومة؟!