بين الثقافة والتكنولوجيا الحسن العسال

إن الرابط بين الثقافة والتكنولوجيا يكمن في عمليتي التأثير والتكييف، حسب قوة إحداهما على حساب الأخرى، بمعنى أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة، إن كانت هذه الأخيرة ضعيفة ومهلهلة، أما إن كانت قوية ومتينة، فإنها تكيف التكنولوجيا لصالحها.
بينما تقول الباحثة الأسترالية في الأنثروبولوجيا جنفيف بيل: “إن الثقافات هي أكثر مقاومة مما كنا نعتقد، بل إنها -الثقافات- هي التي تغيرها -التكنولوجيا-، لأن الأولى صلبة ولا تتطور إلا ببطء شديد”.
وسردت أمثلة على ذلك بأن قالت: إن صانعي الهواتف النقالة طوروا هواتف شعبية للمستخدمين المسلمين، تدعم عباداتهم، وذلك:
1- بتذكيرهم بصلواتهم.
2- وبتحديد قبلتهم.
3- وبتوقيف الاتصالات لمدة عشرين دقيقة.
إذن فالمشكل لا يكمن في المنتوج التكنولوجي، بقدر ما يكمن في كيفية التعامل معه، وبعبارة أخرى: المشكل في الإنسان، وليس في التكنولوجيا، أي هل يقتني الإنسان التكنولوجيا لتسهيل حياته، أم يقتنيها لتستلبه وتغير قناعاته، فيتحول من مالك إلى عبد لها.
ثم إن الإنسان هو الذي يضغط معنويا على الشركات لتستجيب لطلباته، لأن همها الأساس هو الربح، لذلك فإن للمجتمع المسلم مسؤولية جلى في تحديد خصائص المنتوج التكنولوجي الملائم لثقافته، وحسب قول المصريين، ولو في سياق آخر “الجمهور يريد هذا”، يحتم على الإنسان المسلم ألا تكون إرادته إلا تبعا لثقافته.
فمعادلة “أن يمتلك الإنسان التكنولوجيا، أو أن تمتلكه”، لا تقض مضاجع الغيورين من المسلمين فحسب، بل إنها تشغل بال حتى عقلاء الغرب، فبعد بحث أجرته شركة “إنتل” صانعة الرقائق الإلكترونية، حول استخدامات التكنولوجيا، تبين أن %91 من البالغين شاهدوا أفرادا يقومون باستخدامات خاطئة للتكنولوجيا، بينما %75 من مستخدمي الهواتف النقالة تحول إلى الأسوأ عما كان عليه سنة 2009.
مما جعل “جنفيف بيل” رئيسة قسم أبحاث التجريب والتفاعل في مختبرات “إنتل” تبدي حيرتها قائلة: “لم نتمكن بعد نحن وعائلاتنا أو مجتمعاتنا من معرفة ماهية السلوك والتوقعات الصائبة التي ينبغي أن يمارسها المرء”.
وهناك دراسات حول الاستخدام المكثف للتكنولوجيا، خصوصا فيما يتعلق بصناعة الفيديوهات وتطوير المواقع بذكاء، أثبتت أن الأطفال المتميزين في هذه الصناعة، يحصلون على درجات متدنية في أدائهم الدراسي. كما أن أهم الأخطار المحدقة، في هذا الموضوع، بالأطفال، هو ضعف التركيز على موضوع معين لفترة كافية، مما يعني ضعف القدرة على الإنجاز في الحياة العملية.
وهذا ما أكده أستاذ في كلية الطب في جامعة هارفارد الأمريكية ورئيس مركز دراسات يركز على “الإعلام وصحة الأطفال” في بوسطن، عندما قال: إن عقول الأطفال التي تنمو مع التكنولوجيا تتكون بشكل مختلف، يجعلها غير قادرة على التركيز وذات نشاط عصبي متعود على الانتقال بسرعة من شيء إلى آخر بلا توقف، وهو أمر تغذيه التكنولوجيا تدريجيا حتى يتحول إلى إدمان مسيطر على عقل الإنسان.
كما توافقت هذه الدراسة مع ظهور كتاب جاء على قائمة أكثر الكتب مبيعا في أمريكا اسمه السطحيونThe Shallows للباحث الأمريكي الشهير نيكولاس كار، جمع فيه دراسات ودلالات علمية عديدة توصل من خلالها إلى أن التكنولوجيا [الآيفون، البلاكبيري، الآيباد] تؤدي إلى تشتيت هائل للإنسان، بحيث تؤدي إلى ضعف قدرته على التركيز طويل المدى، وعلى الاستغراق الذهني في أمر ما.[1]
فإذا كانت هذه تأثيرات التكنولوجيا السلبية على أهلها الذين صنعوها، وهم المالكون لها، فما بالك بنا نحن الذين نعد مجرد مستهلكين لها، إضافة إلى أن بعضنا يستعملها بكل انبهار، ودون وعي أو تأمل في آثارها السلبية على ثقافتنا، بمعنى استعمالها على علاتها دون تكييفها مع قيمنا.
ومن ضمن المنتوجات التكنولوجية التي تحدث آثارا سلبية على الإنسان وثقافته، الانترنت التي تساهم مساهمة كبيرة في تحطيم المناعة الأخلاقية لدى مستخدميها، كما تؤدي إلى ضعف التواصل الاجتماعي مع الأسرة، إن هي لم تؤطر بحدود ثقافتنا.
وفي موضوع يبدو غير ذي صلة بما نحن بصدده، أستغرب من العلمانيات اللواتي يشتكين من التحرش الجنسي، دون أن يقبلن بأن الحل يكمن في الوقاية، وليس في معالجة النتائج. فضلا عن أنهن يتشبثن بالبيئة التي يزدهر فيها التحرش الجنسي، وأقصد بذلك بيئة الاختلاط.
لكن ما علاقة هذا كله بموضوع التكنولوجيا؟
والجواب يكمن في أن بعض منتوجات التكنولوجيا يزيد من حدة الاختلاط، مما يهيئ الفرص أكثر للتحرش الجنسي، ومن بين هذه المنتوجات وسائل النقل العمومي، التي يعتبر فيها الاختلاط والازدحام الشديد، والتلاصق بين الأجسام، إهانة لكرامة المرأة، مما يستدعي تخصيص حافلات خاصة بالجنس اللطيف كما هو الحال في تركيا، أو في بعض الولايات الأمريكية، وكذلك في بلدية “مكسيكو سيتي” التي قررت بعد عدة شكاوى رفعتها جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة، تخصيص حافلات تحمل إشارات زهرية الَّلون على واجهتها الأماميَّة، تنبيها للرجال لعدم ركوبها.
فإذا كنا نخشى على الثقافة من التكنولوجيا، لأن الأولى هدف، والثانية وسيلة. والوسائل لها حكم المقاصد. فإننا في المقابل نستنجد بالتكنولوجيا لتعزيز ثقافتنا.
فهل عجزت التكنولوجيا -مثلا- عن أخذ بصمات المرأة دون تدخل الإنسان؟
وإن كان الأمر كذلك، وإلى غاية اختراع أو وصول هذه التكنولوجيا إلينا، ندعو المسؤولين إلى تخصيص نساء لأخذ بصمات النساء، لأن الأمر لا يحتاج إلا إلى إرادة صادقة، وإلى رغبة في التماهي مع قيمنا وثقافتنا، والتصالح معهما، عوض الانسلاخ والاستلاب الثقافيين.
ــــــــــــــــــــ
[1] موقع واحة الحاسب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *