الحلقة 12 أصول ومبادئ نظام الحكم الإسلامي

مقالات في
السياسة الشرعية
وتطبيقاتها المعاصرة

الأصل الأول: الحكم لله تعالى (تتمة)

وقفنا في الحلقة الماضية مع مسألة الحكم بما أنزل الله تعالى؛ من حيث حكم الفعل والفاعل، وأود أن أبين في هذه الحلقة؛ أن تعمد الحكم بغير ما أنزل الله تعالى؛ سلوك خطير جداً:
وقد جاء توضيح هذه الخطورة في سورة النساء (الآيات من 60 إلى 70)؛ حيث بين الله تعالى أن التحاكم إلى منظومة تشريع منافية لما شرعه سبحانه؛ يتنافى مع الإيمان الواجب شرعا في إطار مفهوم العبودية الذي يؤطر الوجود الإنساني، ويجعل من ذلك الإيمان زعما وادعاء أكثر من كونه واقعا وحقيقة:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 60 – 70].
أخرج ابْن جرير عَن قَتَادَة قَالَ: ذكر لنا أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار وَرجل من الْيَهُود فِي خصومة كَانَت بَينهمَا؛ فتحاكما إِلَى كَاهِن كَانَ بِالْمَدِينَةِ وتركا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعاب الله ذَلِك عَلَيْهِمَا.
وَقد حَدثنَا أَن الْيَهُودِيّ كَانَ يَدعُوهُ إِلَى نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يَأْبَى عَلَيْهِ الْأنْصَارِيّ الَّذِي زعم أَنه مُسلم، فَأنْزل الله فيهمَا مَا تَسْمَعُونَ”اهـ .
فهذا رجل مسلم رفض التحاكم إلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتحاكم إلى حكم غيره لأن له في ذلك مصلحة؛ فنزلت الآيات الكريمات تبين أن هذا سلوك مرفوض يتنافى مع مقتضيات الإيمان.
ولذلك وصف الله هذا السلوك بالضلال البعيد: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}.
والضلال البعيد هو الكفر؛ فالشيطان يريد أن يصل بالإنسان إلى الكفر حين يحمله على الإعراض عن الحكم الشرعي والتحاكم إلى ما يخالفه.
قال العلامة الطاهر بن عاشور: “وقد بين الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفرا، سواء كان من منافق أم من مؤمن؛ إذ قال في شأن المنافقين:
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ. وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50].
ثم قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}؛ لأن حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف إذ لا يشرع الله إلا الحق، ولا يخالف الرسول في حكمه شرع الله تعالى.
ثم إن الإعراض عن التقاضي لدى قاضي يحكم بشريعة الإسلام قد يكون للطعن في الأحكام الإسلامية الثابت كونها حكم الله تعالى، وذلك كفر لدخوله تحت قوله تعالى: {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا}.
وقد يكون لمجرد متابعة الهوى إذا كان الحكم المخالف للشرع ملائما لهوى المحكوم له، وهذا فسوق وضلال، كشأن كل مخالفة يخالف بها المكلف أحكام الشريعة لاتباع الأعراض الدنيوية” .
قلت: وهذا يؤكد ما سبق تقريره؛ من أن الكفر هنا قسمان: اعتقادي وعملي.
قال الطاهر: “وهذه القضية ترجع إلى النظر في التكفير بلازم القول والفعل، وفيها تفصيل حسن لابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب «الجنائز» وكتاب «المرتدين».
خلاصته: أنه لا بد من تنبيه من يصدر منه مثل هذا على ما يلزم قوله من لازم الكفر فإن التزمه ولم يرجع عد كافرا، لأن المرء قد يغفل عن دلالة الالتزام، ويؤخذ هذا على هذا الوجه في سبب النزول من أسلوب الآية لقوله: {لا يؤمنون- إلى قوله- تسليما}.
فنبه الأنصاري بأنه قد التبس بحالة تنافي الإيمان في خفاء إن استمر عليها بعد التنبيه على عاقبتها لم يكن مؤمنا”اهـ .
“وصيغة الجمع في قوله: {الذين يزعمون} مراد بها واحد، وجيء باسم موصول الجماعة؛ ليشمل المقصود ومن كان على شاكلته” .
قلت: وقد أكدت الآيات من سورة النساء أن الصد عن الحكم بما أنزل الله من صفات المنافقين:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}
فالصدود عما أنزل الله نفاق، ويتسبب في أن يصيب الله صاحبه بمصيبة، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم المصيبة بقوله:
“وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم” .
وفي رواية: “وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر”.
وهو صريح في أن المسلمين إذا تركوا التحاكم في قوانينهم وتشريعاتهم إلى ما أنزل الله تعالى؛ فإنهم يعاقبون بأمرين:
1- التنازع فيما بينهم؛ والذي يدخلهم في صراعات وحروب ساخنة وباردة تضعفهم سياسيا واقتصاديا.
2- تدهور أوضاعهم الاقتصادية؛ وما يترتب على ذلك من تدهور أمني وتخلف علمي وفكري.
وهو حال المسلمين لما كثر في منظوماتهم السياسية والقضائية؛ الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه.
والغريب أن معظم من يقع منهم ذلك من الحكام؛ يظنون أنهم يحسنون ويفعلون ما به تتقدم دولهم وتزدهر: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} ..
فقال الله تعالى مكذبا لهم: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم}.
قال الزجاج: “معناه: قد علم الله أنهم منافقون، والفائدة لنا: اعلموا أنهم منافقون .
ثم بين سبحانه الموقف منهم: {فأعرض عنهم}؛ أي عن عقابهم، وهي سيرته عليه السلام مع المنافقين.
و{عظهم} أي خوفهم.
والوعظ: الأمر بفعل الخير وترك الشر بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على الامتثال .
وهذا هو الخطاب الذي يحتاجه الحاكمون بغير ما أنزل الله؛ وليس خطاب التكفير والتنفير ..
إننا في الوقت الذي ننكر فيه غلو التكفير الذي وصل ببعض المسلمين الى درجة الخروج على الدولة والمجتمع، بعد أن وقعوا في نوع من الاعتزال السلبي..
فإننا نرى من الواجب أيضاً؛ إنكار ما وقع فيه بعض المسلمين من تقصير في هذا الواجب، وهو ما يتنافى مع توحيد الله في الحكم والتشريع، ويمثل جرأة خطيرة على إلغاء تحكيم شرع الله من القضاء وغيره وإحلال القوانين الوضعية بدلاً عنه، ولا شك أن هذه جرأة عظيمة ما عاهدتها الأمة الإسلامية في مشوارها الطويل قبل عام 1342هـ” .
وقد سجل التاريخ حرص المحتل على الفصل بين المسلمين وشريعتهم، ومنعهم من الاستمرار في اتخاذها مرجعا في الحكم: سياسة وقضاء..
والنتيجة ما نشاهده اليوم من تغييب لهذا الأصل: الحكم لله تعالى؛ من العملية السياسية المعاصرة..
وبسبب ذلك؛ تفشت إطلاقات غير شرعية في الدساتير؛ كإطلاق جعل السيادة للأمة دون وضع قيود تفسيرية ترفع توهم ما لا يجوز في هذا الباب من إعطاء الإنسان حق التشريع المطلق..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *