عند اتصال الحضارة العربية بنظيرتها الأوربية في نهاية القرن الثامن عشر تحت مظلة الاستعمار لاحظ العرب ذلك البون الشاسع بين تخلف حضارتهم وانحطاطها وتقدم حضارة الغرب وازدهارها، خصوصا مع غزوة نابليون بونابرت لمصر سنة 1798، والذي أدخل مجموعة من الآليات العصرية إلى البلاد العربية كان في مقدمتها المطبعة، كما عمل على إرسال البعثات الطلابية العربية إلى فرنسا للدراسة، وهذه الأخيرة ستشكل نواة النهضة العربية الحديثة.
وازدهرت في هذه الفترة أيضا حركة الترجمة والاقتباس في مختلف مجالات العلوم والآداب، وانتشرت الصحف والمجلات. يقول حسام الخطيب في مظاهر هذه النهضة: «كلما أطال الإنسان النظر في حركة النهضة العربية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ازداد إعجابا بشمول هذه النهضة لمختلف مرافق الحياة وأبواب المعرفة من جهة، وعمق روح المسؤولية القومية والحضارية لدى رجالاتها من جهة أخرى»[1]، ونضيف عاملا آخر كان له الدور الكبير في إذكاء آلية المقارنة عند العرب هو الرحلات الاستكشافية العربية إلى الغرب، والتي يأتي في مقدمتها رحلة رفاعة الطهطاوي الذي يعد كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» اللبنة الأولى في فكرة المقارنة بين الشرق والغرب والتي أصبحت فيما بعد أساسا لسلسلة من الأعمال الإبداعية والجدلية.
وكانت اللبنة الثانية من حيث الأهمية مطولة “علم الدين” لعلي مبارك[2]، وتوالت بعدها العديد من الأعمال والرحلات. ولقد ” لقد كان الاتصال الثقافي مع الغرب هو الخيار الوحيد المتاح في ذلك الحين لاختيار خطوات النهضة. وفي هذه المرحلة من الاتصال غُرِست البذور الأولى لفكرة المقارنة وبالتالي للأدب المقارن العربي فيما بعد”[3].
وإذا كانت الدراسات الأدبية الحديثة قد أجمعت على أن المدرسة العربية المقارنة لم تخرج إلى أرض الوجود إلا مطلع القرن العشرين بعد فترة مخاض طويلة متأثرة بالاحتكاك الثقافي الغربي (الفرنسي على وجه الخصوص) نتيجة الصدام الحضاري بين الغرب المتقدم والشرق المتخلف، كما أنها متحت وارتكزت على النظريات الغربية في تأسيس هذا الفرع العلمي، فإن تمت هنالك إرهاصات عربية خالصة كانت سبّاقة في التطرق إلى آلية المقارنة منذ العصر العباسي أو قبله وتجلت أساسا في الأدب القومي العربي المتمثل في الموازنة بين الشعراء وتصنيفهم إلى طبقات وفق معايير معينة (طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي مثلا)، وكذلك من خلال كتب مثل الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، ثم كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني وغيرها، وهي التي أنضجت الفكر المقارِني عند الأدباء والنقاد العرب على حد سواء.
حيث يقول شوقي ضيف بهذا الصدد عن كتاب الآمدي: «وهو أول كتاب– فيما نعرف- يتصدى للمقارنة بين شاعرين لا لغرض وَضْعِ أحدهما فوق الآخر فقط، بل لبيان الاختلافات الجوهرية بينهما وما يمتاز به كل منهما في صفائه وخصائصه: ومن هنا كان هذا الكتاب أول كتاب في النقد المقارن عند العرب بمعناه العلمي الدقيق»[4]، وعلاوة على ذلك فإن العرب كانوا دائما يستحضرون المقارنة بينهم وبين الشعوب الأخرى في مختلف مناحي الحياة سواء منها الاقتصادية أو الإدارية أو الدينية أو الثقافية.
ويكفينا هنا تدليلا على ذلك الكم الهائل الذي تزخر به المناظرات الدينية بين العلماء المسلمين من جهة وغيرهم من قساوسة وحاخامات وهندوسيين من جهة أخرى، والتي كانت تعتمد على المقارنة بين عقائد الديانات المختلفة وبيان أوجه صحتها.
وهذا ينم على أن آلية المقارنة لم تغب عن العرب في مختلف علومهم وآدابهم، إذ يشير الناقد العربي صفاء خلوصي بالقول: «فنحن أول من درس الأدب المقارن دون أن نشعر، ففي كتاب نقد الشعر ونقد النثر لقدامة بن جعفر وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ودلائل الإعجاز لعبد القاهر البغدادي، وسائر كتب النقد والبلاغة مادة بكر لدراسة العناصر الأجنبية في البلاغة العربية ومدى تأثير مقاييس النقد اليوناني والأساليب والتشبيهات الفارسية في أدبنا العربي…»[5]، ولا أحد ينكر أن الأدب العربي نفسَه استفاد من آداب وثقافة الفرس فبدا أثر ذلك في المجتمع العباسي وفرض الفرس نموذجهم في شتى المجالات وشاركوا بأنفسهم في إغناء الثقافة العربية وكانت لهم الريادة فيها (ابن المقفع، الغزالي، بشار بن برد، أبو نواس…). كما اهتم الجاحظ اهتماما ملحوظا بالمعجم الفارسي الذي تسرب إلى لهجة الكوفة ودقق عنده كاشفا عن العديد من المفردات الفارسية الأصل في اللغة العربية.[6]
وعلاوة على ذلك فقد كان تأثير الثقافة اليونانية وآدابها باديا على الثقافة العربية، خصوصا بعض ترجمة العديد من كتبهم التي يأتي في مقدمتها “فن الخطابة” لأرسطو والإليادة والأوديسا لهُوميروس، “كما عرف المسلمون باقي العلوم اليونانية الأخرى من فلسفة وطب وفلك ورياضيات، بل نجدهم يتجاوزون حدود الترجمة إلى الشروحات والتعليقات وغيرها”[7]، أضف إلى ذلك ما ظهر من تلاقح ثقافي بين الثقافة العربية ونظيرتها الهندية نتيجة التبادلات التجارية وأيضا الترجمة التي تعد حكايات “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” من أبرز كتبها تأثيرا في أدبنا العربي.
وإسهاما منه في التأكيد على مكانة الأدب العربي بين باقي الآداب يقول الطاهر أحمد المكي: «لا أضن أدبا معاصرا له من العمر ما للأدب العربي. إن أقدم نص أدبي، في أية لغة أوربية معاصرة –مثلا- لا يتجاوز القرن الثاني عشر الميلادي بحال، وما قبله فآداب أخرى، اندثرت أو أصبحت تاريخا يدرس… أما الأدب العربي فأقدم نص فيه يعود إلى مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي»[8]، وهذا دليل آخر يبرز مكانة أدبنا التاريخية ويكشف الزيف المزعوم في السبق الأوروبي.
ومن خلال كل ما سبق يبدو لي أنه من المجحف حقا أن يَعتبر بعض الدارسين العرب الأدب المقارن موضوعا جديدا كل الجدة، «وافدا من الغرب فوجد ملاذا آمنا ووطنا ملهما في ضوء التجربة الفريدة للأدب العربي في التفاعل مع آداب العالم شرقيها وغربيها…»[9]، متناسين ما كان لهذا الأدب من أدوار طلائعية في غنى الثقافة العالمية، ومُولين ظهورهم الكثير من الدراسات المقارنة في تاريخنا الأدبي العريق، صحيح أنها لم تكن أعمالا قائمة الذات وناضجة منهجيا، ولكنها على الأقل كانت حجر التأسيس للأدب العربي المقارن الحديث.
المصادر
- حسام الخطيب: آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، دار الفكر المعاصر، بيروت ، لبنان، ط2،1999.
- سعيد علوش : مدارس الأدب المقارن، المركز الثقافي العربي، ط1،1987.
- شوقي ضيف: النقد ، دار المعارف، القاهرة، ط5.
- الطاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب، دار الفكر العربي، ط8، 1999.
- عبد الله آصطيف: العرب والأدب المقارن 2006.
- محمد زرو: التلاقح الفكري واللغوي في العصر العباسي، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية،العدد7،2007، ط1.
————————————
[1] حسام الخطيب: آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، دار الفكر المعاصر، بيروت ، لبنان، ط2،1999،ص:151.
[2]نفسه، ص: 152.
[3]نفسه، ص: 152.
[4] شوقي ضيف: النقد ، دار المعارف، ط5، ص 80.
[5] صفاء خلوصي: مقال دراسات للأدب المقارن، عن سعيد علوش : مدارس الأدب المقارن، المركز الثقافي العربي، ط1،1987،ص309.
[6] محمد زرو :التلاقح الفكري واللغوي في العصر العباسي ،مجلة الآداب والعلوم الإنسانية،العدد7،2007،ط1.
[8] الطاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب،دار الفكر العربي، ط8، 1999،ص7.
[9] عبد الله آصطيف: العرب والأدب المقارن ،2006،ص10.