من الكلمات الرصينة التي جادت بها قريحة العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله قوله: “من تحدث في العلم بغير أمانة فقد مس العلم بقرحة، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة”1.
ومن مظاهر ذلك: الاسترواح بـ(مطلق الخلاف2 في المسائل)! وجعله من حجج الإباحة والجواز دون تحكيم الدلائل(!) حتى ابتلي بهذا -زمن الفتن خاصة قديما وحديثا- كثير من الناس بل الأفاضل(!!)
فنقول وبالله التوفيق ومنه العون والتحقيق:
من الأصول المعلومة والقواعد المقررة أن الحجة عند التنازع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: “فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ”.
عن ميمون بن مهران رحمه الله قال في معنى الآية: “إلى كتاب الله والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قبض إلى سنته”3.
وعليه فـ”لو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند التنازع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع”4.
فالواجب إذن على المرء عند الاختلاف: النظر في الصحيح الراجح من ذلك إذا لاح له وظهر فيلزمه ويتمسك به، ويتأكد ذلك بالنسبة لصاحب النظر والاجتهاد لأنه “حق على المجتهد أن يطلب لنفسه أقوى الحجج عند الله ما وجد إلى ذلك سبيلا5 لأن الحجة كلما قويت أمن على نفسه من الزلل”6.
وإذا عرض للمرء الاشتباه فعليه تحري الخروج من الخلاف فإن “طريق الرشاد في الأمور التي اختلف العلماء في وجوبها أمران: إما أن يتحرى الخروج من الخلاف إن أمكن، وإما أن ينظر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتمسك به”7.
ومن ثم فمن الخطأ الجسيم الذي سار عليه كثير من الناس احتجاجهم بـ(مطلق الخلاف عل سعة الأمر)! دون (النظر في حقيقة هذا الخلاف)! ولا (معرفة لقوته أو ضعفه)!.. وفق قواعد العلم وأسسه حيث ترتب عليه القول بعدم الإنكار لمسائل الخلاف مطلقا، وهذا سوء فهم لعدم التفريق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف.
فإن مسائل الخلاف هي كل مسألة اختلف فيها العلماء سواء كان فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا أم لا.
أما مسائل الاجتهاد 8 فهي التي ليس فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا فيسوغ فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها.
وهذا يبين بيانا واضحا أن مسائل الاجتهاد هي من مسائل الخلاف لا العكس.
فأهل العلم عندما قالوا: (لا إنكار في مسائل الخلاف) فقصدهم بهذا الاصطلاح المعهود عندهم (مسائل الاجتهاد) لأنهم كما نصوا على ذلك فقد قرروا أنه (لا اجتهاد مع النص)9 فتأمل ولا تعجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل.
أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً.
وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار.
أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.
والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ له -إذا عَدِمَ ذلك فيها- الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها”10.
ولا يعني هذا أن لا خلاف يسعنا وإنما الكلام عن مطلق الخلاف لا الخلاف الاجتهادي السائغ مع السعي فيه هو بدوره إلى تضييقه قدر الإمكان.
يقول الشافعي -رحمه الله-: “الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، ولا أقول ذلك في الآخر.
قال (أي محاوره): فما الاختلاف المحرم؟
قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا11، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل: إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص”12.
وبناء عليه فإن مجرد الخلاف ليس من حجج الشرع ولا يعتد به كدليل عند العلماء لأنه ليس بتشريع.
قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: “الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله”13.
وعليه لا يمكن أن نعتبر “كل ما اختلف في تحريمه يكون حلالا، فهذا مخالف لإجماع الأمة وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام”14.
فاحذر الاتكال على مجرد الخلاف في الأمر لتقرير الجواز والإباحة بلا علم ولا أثر فـ”ليس كل خلاف يُستروح إليه ويُعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد”15.
وقد قرر هذا الإمام الشاطبي -رحمه الله- حيث قال: “وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرا آخر”.
إلى أن قال: “وهذا عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة”.
ونقل كلاما للخطابي -رحمه الله- حيث قال: “ليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين”16.
ومن خلال ما سبق يتبين الخطأ الذي جرى عليه عمل بعض المشتغلين بالعلم من إيراد عموم مسائل الخلاف وحكايتها وسرد الأقوال فيها ونسبتها إلى أصحابها، وربما ذكر أدلة كل مذهب دون تحقيق لذلك ومن غير بيان للراجح من المرجوح والقوي من الضعيف، مع أن نوع ذاك الخلاف يستوجب ذلك.
فهذا العرض لمسائل الخلاف يجعل غير الفقيه في حيرة، وربما ظن اشتباه الشرع وصعوبة درك الحق وطلبه.
فهذا الطريق لا يحصل بها بيان، بل هي إلى التعمية وتوعير الطريق أقرب، فإن “كلام الناس هنا كثير وحاصله معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف”17.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند كلامه عن آداب المجادلة: “فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تُنبِّه على الصَّحيح منها، وتُبطل الباطل، وتذكر فائِدة الخلاف وثمرته؛ لئلاَّ يطول النزاع والخلاف فيما لا فائِدة تحته، فيُشتغل به عن الأهم”18.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1. رسائل الإصلاح 1/13.
2. استعمالنا للفظة (الخلاف) أو (الاختلاف) في هذا المقال هو بمعنى مطلق المخالفة والمباينة بين الأقوال فتنبه.
3. الجامع لابن عبد البر رحمه الله بالسند الصحيح.
4. إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله 1/49.
5. قال الإمام ابن الهمام رحمه الله في شرح التحرير: “كل من حفظ الأقاويل ولم يعرف الحجج، فلا يحل له أن يفتي فيما اختلف فيه” نقلا عن تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب للعلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله 89.
6. البحر المحيط للزركشي رحمه الله 6/229.
7. قاله السبكي رحمه الله نقلا عن “الاختلاف وما إليه” 47.
8. الاختلاف في هذا النوع من المسائل يعرف بـ(الخلاف المعتبر)، ولا يكون كذلك إلا إذا تحققت شروطه وضوابطه ومحل بسطها في مقام آخر.
9. المراد بـ (النص) -هنا- مطلق الدليل الذي يشمل النص والظاهر على اصطلاح علماء الأصول فتنبه.
10. بيان الدليل على بطلان التحليل 210-211.
11. من الواجب مراعاته عند هذا المقام ضرورة النظر في ذاك الاحتمال صحة وبُطلانا وقُربا وبُعدا فإن “الأصل عدم..الاحتمال البعيد” (أضواء البيان 3/396)، بل هو أصالة مردود غير سديد، انظر على سبيل المثال لا الحصر: الفتح 1/80، وشرح مسلم للنووي 4/134، وتحفة الأحوذي 1/274، ونيل الأوطار 4/235.
فالاحتمالات البعيدة هي في حكم النادر أصلا “والنادر لا حكم له” (المدارج 1/45)، و”إذا فتح أورث الاضمحلال لكل ما يُعَول عليه في الاستدلال” الجرح والتعديل للقاسمي 36.
ولأجله قرر العلماء رحمهم الله أن: “المحتمل الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو تأول مقبول جار على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره، وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابثة وأمر واضح فلا يقال له احتمال وإنما هو تلاعب وهوس خيال” الجرح والتعديل للقاسمي 37-38.
12. الرسالة 560.
13. جامع بيان العلم 2/89.
14. رفع الملام لشيخ الإسلام رحمه الله 57 بتصرف يسير جدا.
15. قاله الإمام ابن الصلاح رحمه الله في فتاويه 300، وعزاه إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 1/228.
16. الموافقات 4/141.
17. الموافقات 4/162.
18. مقدمة تفسير القرآن العظيم 1/10.