بقلب خاشع وطرف دامع؛ ودعت مراكش أحد فلذات كبدها وأبرارِ أبنائها الذين ملؤوا أرجاءها بنداءات الإصلاح، وهزوا أركانها بخطاب دعوي يصدع بالحق، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ..
عرفته مدرجات كلية الآداب مربيا معلما.
وعرفته النوادي والمجالس أديبا مبدعا وعالما مشاركا.
وعرفته الأسفار سائحا متفكرا.
وانحنى القلم بين يدي أنامله؛ وهي تخط به فقه الفقير والمسكين، المستنبط بفكر ثاقب وتأمل لازب؛ من السنة المشرفة والكتاب المبين ..
صبغ العمل الدعوي برونق الأدب، وقدمه للناس على مائدة مزخرفة تعددت أصناف أطعمتها وتنوعت أشكال أشربتها؛ شواءها تفسير وأحكام، وشايها سيرة وأعلام، وعسلها إيمان وإسلام، وفاكهتها أدب مختار؛ ذوقه رفيع وحبكه بديع، وكلماته زجلة فصيحة، يقدمها بلكنة مراكشية مليحة ..
ومن معين هذه الكلمات الطيبات؛ استقيت قول الشاعر الذي كان لأستاذنا منه حظ ونصيب:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا |
جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا |
وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم |
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا |
لا تحسب المجد ثمرا أنت آكله |
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا |
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع؛ ولا نقول إلا ما يرضي الرب:
إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا بفراقك يا أبا واصل لمحزونون.
أجل أيتها الأمة الإسلامية، أجل أيتها الأمة المغربية:
توفي ليلة الخميس الماضي؛ الثاني من شهر ذي القعدة 1432هـ، الموافق 29 شتنبر 2011؛ الشيخ الأديب والداعية الأريب؛ صاحب الفضيلة الأستاذ عبد السلام الخرشي رحمه الله.
صلى عليه المسلمون ضحى يوم الخميس، صبيحة وفاته؛ يؤمهم الشيخ العلامة مولاي أحمد المحيرزي أبو عبيدة، وقد قدّم بين يدي الصلاة؛ كلمة ذكّر فيها المصلين ببعض أحكام صلاة الجنازة وآدابها؛ منها: أن التكبير لا يجهر به المأمومون، ومنها أن السنة في التسليم أن يسر الإمام والمأمومون، ويعرف انتهاءه باستقباله للمصلين ..
ثم خرجت الجنازة في نعش متواضع؛ ذكرني بتواضع الأستاذ حين كان يمشي على الأرض هونا.
وقد شهد الصلاة وشيع الجنازة آلاف الناس من مراكشيين وآفاقيين هبوا من كل فج عميق ..
امتدوا على مسافة طويلة من شارع “علال الفاسي”، الذي يفضي إلى مقبرة “باب دكالة” حيث دفن الفقيد.
وقد حملت الجنازة على الأكتاف في صمت خاشع وموكب مهيب؛ سكنت لجلال منظره حركة السير التي تعطلت في كل الطرق التي سلكتها الجنازة ..
ومن ضمن الحضور، أعيان مدينة مراكش من علماء وقراء ودعاة وأدباء وسياسيين ومفكرين وممثلي السلطات وأعيان التجار والحرفيين ورجال الأعمال؛ أذكر منهم: الشيخ الدكتور لحسن وجاج، والشيخ المربي محمد زهرات، والشيخ الواعظ محمد العدناني، والأستاذ الدكتور توفيق عبقري، والشيخ المقرئ عبد الكبير أكبوب، والقارئ الشهير عمر القزابري، والمقرئ الدكتور عبد الرحيم نابلسي، والأستاذ الدكتور أحمد متفكر، والسيد محمد بلقايد عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، والحاج محمد شاكر صديق الفقيد …
وقد ألقى عند الدفن؛ الشيخُ الفقيه عبد القادر دراري كلمة دعا فيها للفقيد، وعزى الأمة فيه، وذكرها بعظم المصاب وجلل الحدث، وأن موته خسارة للأمة الإسلامية عامة، وللمغاربة خاصة.
كيف لا؟!
والمحمول على الأكتاف طود شامخ، رفع منار الدعوة عاليا، وسجل حضورا قويا في محافل العلم ومنتديات الأدب والفكر.
كان رحمة الله عليه؛ عالما جليلا وأديبا بليغا وواعظا مفوها.
شديد الغيرة على دين الله متفانيا في الدعوة إلى الله، محبا للسنة وأهلها.
درس السيرة النبوية دراسة معمقة، وكان له ذوق أدبي رفيع، وقد حفظ القرآن صغيرا، ودرس على عدد من المشايخ؛ منهم: العلامة المراكشي أبو عبيدة المحيرزي.
وكان صاحب أخلاق عالية؛ حييا متواضعا كريما برا سهلا ..
لما توفيت زوجته رحمها الله قبل نحو سنتين؛ ظهر منه وفاء عجيب، وكان كثير البكاء عليها.
وزوجته هي حفيدة العلامة المراكشي القاضي عمر الجراري؛ تلميذ العلامة أبي شعيب الدكالي رحمهما الله.
تشرفت بمجاورته في السكن أربع سنوات، وكنت أطلب منه بعض الفوائد فيسارع إلى إفادتي جزاه الله خيرا.
ومن تواضعه العجيب؛ أنني أرسلت إليه مرة؛ أطلب مجلسا معه لأسأله بعض الأسئلة؛ فقال للرسول: “قل للشيخ: نحن من يستفيد منه”!!
واستنصحته عن بعض كتبي؛ فقال بعد قراءتها: “كتاباتك نور على نور” ..
طبع له كتاب ضخم ماتع مفيد بعنوان: “فقه الفقراء والمساكين في ضوء القرآن والسنة، أو الحل الإسلامي لمعضلة الفقر”.
ومن مؤلفاته المخطوطة: جزء في المداراة، وكتاب في أحوال النفس في السنة النبوية، وله تقييدات في الأدب ..
وله دروس ومواعظ ومحاضرات ذات قيمة علمية وأدبية رفيعة؛ كثير منها مسجل.
كان رحمه الله شغوفا بالكتاب؛ يتتبعه في السفر والحضر، ويبذل فيه كثيرا؛ حدثني السيد رشيد -قيم مكتبة النبلاء- أن الفقيد كان يزور المكتبة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يقتني لنفسه، كما يقتني المصاحف والكتب لإهدائها لغيره.
أخبرني الشيخ أبو عامر أنه كان مولعا ب”تحفة الأشراف” للحافظ المزي معظما لمؤلفها، ويقول: “هي أتقن تحقيق للكتب الستة، والمزي بالتحفة وتهذيب الكمال أضبط محقق لهذه الأمهات التي هي عماد الدين بعد القرآن”.
ولما نشرت “التحفة” بتحقيق الشيخ بشار عواد قال: “لقد كمل الكمال”، ثم أفاض يثني على نشرة بشار لتاريخ الإسلام للذهبي وتاريخ دار السلام للخطيب، وما في الكتابين من جليل العلوم ونوادر الأخبار”اهـ
وبسبب تعلقه بالكتب؛ كان دائب التواصل مع أخينا ومفيدنا؛ الداعية إبراهيم زهرات؛ لكثرة ما كان يهديه من الكتب، وقد كان كثير العرفان والشكران له.
وكان مغرما بكتاب “تجارب الأمم” لابن مسكويه، وكان يقول: “هو أحسن ما كتب في التاريخ”.
ومن شغفه بكتب الأدب وشعر الحكمة؛ جَهِد في البحث عن “ديوان صالح عبد القدوس” فوجده في الخزانة العامرية لشيخنا أبي عامر، ففرح بذلك فرحا عجيبا، وصوره وجلده.
وكان يقول: “ما يذكر عن صالح عبد القدوس من الزندقة، يرده شعره”، وقد كان يستظهر الديوان كاملا، حدثني بذلك الشيخ عادل.
وقد كان له حظه من الاجتهاد في التعبد؛ ومما شاهدناه من ذلك: أنه كان حسن الصلاة، وكانت لا تفوته تكبيرة الإحرام في الصف الأول في مسجد حيه ..
قال لي عنه شيخنا الدكتور وجاج: “هو عندي من أفضل دعاة السنة وأعلمهم، وكان قويا في الأدب”اهـ
وقال عنه المفكر المغربي؛ الدكتور عباس رحيلة في كلمة ألقيت في مناسبة تكريم الدكتور الخرشي رحمه الله:
“عاصر التقلبات والإيديولوجيات في مطالع سبعينيات القرن الماضي، وعايش لحظات الإغراء والانزلاقات، فكان يُراقب ما يجري في الساحة الثقافية بمراكش وهي تطفح بالإيديولوجيات، وتغمرها الانحرافات، فما جرفتْه الأهواءُ والتيارات.
ظل واثقا من نفسه، يسير وحيداً عكس التيار، تتهاوى أمام حواراتِه أوهامُ المادّيين الجدليين، ومن مشى في ركابهم من التائهين. حلَّقَ في تلك الأجواء في غير سربه بشموخ، واتسعت قراءاتُه في مواقف الإسلام من قضايا العصر وما يمور فيه دعاوَى وانحرافات، ولعلّ أطروحته حول الفقراء والمساكين من آثار تلك السنين، أمّا مجادلوه بالأمس فقد توارى أكثرُهم اليوم، وظلوا على اختلاف ما عرفتْه أحوالُهم يحملون التبجيل لمواقف عبد السلام والاحترام لشخصه.
كان صنيعةً للإسلام:
كان أناس من زمانه – وهم كُثْرٌ – صنائعَ أهواء وولاءات، يتباهَوْن بالتَّشَكُّل تَبَعاً للظروف والتحوُّلات، وكان عبدُ السلام صنيعةَ الإسلام، عجنتْه الثقافةُ الإسلاميَّةُ بقيمها، وشدَّتْهُ إلى مقاصدها، وغمرتْ روحَه بِسِيَرِ أهلها، وطبعته السُّنَّةُ بحقائقها وبضوابطها لحركة الحياة؛ فعرف حقائقَها فيما صحَّ منها؛ وانضبطت بها حركة حياته.
ما عادت تنفكُّ روح عبد السلام عن منهج الإسلام، وما عاد شيء ينفكّ في حياته عن قول الله عز وجلّ، وقول رسوله الأعظم صلوات ربي وسلامُه عليه.
امتلأتْ روحه بذلك المنهج فما عاد فيها متَّسَعاً لما يجري في معترك عصرنا من أوهام تحرِّكُها خلفيات صهيونية؛ غايتُها إطفاءُ نور الله في الأرض، وصدُّ الناس عن سبيل الله. من أجل ذلك، استغنى عبد السلام عن كثير مما يخوض فيه القوم، ووجد في ثقافته الإسلامية بصنوفها وبصفائها وعمقها وشمولية مقاصدها كلَّ ما تدعو المعرفة الإنسانية إليه.
ظل شلاّلا ينهمر:
ظل في دروسه عامة وفي محاضراته الجامعية خاصة ذلك الشلال المنهمر الذي ترتوي منه العقول والنفوس. تتسابق المعارف على لسانه، كلُّ لفظة تنثال على لسانه تستدعي عشرات المعاني في ذاكرته، كلُّ لفظة تَضْغَطُ على نفسه بإيحاءاتها فتفتح له آفاقا للقول، لا يصرفُها عنه إلا ضغطُ الزمن، وما يقتضيه المقرر، ويستدعيه المنهج.
وتنساب محاضراته في أجواء كلية الآداب، توقِظُ الصمتَ، وتوقظُ الهِمم، وتُذكِّرُ بشموخ مجالس العلم في زمن عزة العلم، وتُحَفِّزُ من لا طاقةَ له بالعلم بالجِدّ في طلب العلم، والدخول إلى معتركه؛ فتستشعر النفوسُ مسؤوليتها فيما هي مطالَبَةٌ به في دنياها، وما أعدَّتْه من عُدَّة لأخراها. وظل عبد السلام كالبحر الزاخر، يرمي بلآلئه، يُنير السبُل في معترك المغرب الحديث بكلّ ما يضطرب به العصر، بنزوع إصلاحي لا يَحيد عن التغني بالقيم التي ينبغي أن تنشدها الإنسانية في بحثها عن الحقيقة، وأية حقيقة هي خارج ما ارتضاه الخالق المُدبِّرُ لشؤون خلقه؟
وستشهد له بيئات العلم التي حاضر فيها أنه طبَعَ الدرس الإسلامي بطابعه وأشاع السنَّة بين الحاضرين، وهو خير من انتصر للسنة في البيئة المراكشية.
هو قليل الشبيه في جعله القرآن الكريم والسنة النبوية وآداب العرب في معانيه الراقية في محفل متناغم مع حركة الحياة، لا تستقيم دنيا البشر بغيرها”اهـ.
وقد نظّمَت “مؤسسة البشير” و”النادي الأدبي” بمراكش؛ حفل تكريم للعلامة الدكتور عبد السلام الخرشي، بمناسبة صدور الطبعة الثانية من كتابه: “فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة”.
يوم السبت 29 جمادى الأولى سنة 1430، الموافق: 23 مايو 2009.
رثاء ورجاء:
بعد نحو أربع ساعات من وفاة الأستاذ؛ توصلت من الشيخ أبي عامر بأبيات يرثي فيها الفقيد.
وقد كان الفقيد يحمل في قلبه احتراما وإجلال كبيرين للشيخ أبي عامر، وكان يقدمه في المجالس ويتواضع بين يديه وكان يلقبه بالعالم الشاب، وكان رحمه الله كثير التردد عليه في الخزانة العامرية ويقول له عنها: “هذا مسجدي”.
قال الشيخ أبو عامر عادل بن المحجوب رفوش:
عبد السلام، ومن في الصدق ضاهاه؟ |
وفي سلامة صدر تلك بشراه |
||
هذي القبور للقياه مهللة |
فقد عهدناه يرجو الله يخشاه |
||
ما بح صوت امرئ لله داعية |
كبح ذاك الفتى الخرشِي بدعواه |
||
يرصع القول باستدلالِ ذي حكم |
وينظم الدر وعظا من ثناياه |
||
ويجهد الفكر في نصح لأمته |
نهيا ونأيا ولا يرتاح مسعاه |
||
لله غيرته في حسن حكمته |
أدنى الحُلُومَ وكلَّ الجهل أقصاه |
||
في سيرة المصطفى صفى سريرته |
وللقران جليسا حين تلقاه |
||
جم القناعة فياض الندى ورع |
حلو الحديث وفيه شهدةٌ فاه |
||
مات التذوقُ للآداب إذ رُمستْ |
تلك السجايا وحين القبر واراه |
||
مات الشعور بأشعار ينمقها |
بحفظه الفذ، ما كنا لننساه |
||
يا أهل مراكش الحمرا ألا رجل |
ينهي مهازل إهمال فقد شاهوا |
||
أين التراجم للأعلام في سير |
أمثال خرشينا أو من له جاه |
||
أين التقاييد عن شيخ ومعلمة |
تخلد المجد للأجيال عقباه |
||
لقد تقطع بينُ القوم بينكمُ |
حِرْمٌ على رَؤُفٍ يغشاه يرضاه |
||
الناس في مشرق قد ترجموا نُكُرا |
ونحن في أعرف الجُلّى عياياه |
||
الموت أن تعفو الأطلال دارسةً |
ومن يؤرخ لذي الإيمان أحياه |
||
ها قد نصحت وقلبي لا يكاد على |
عبد السلام تصون الدمعَ عيناه |
قوله: بَيْنُ؛ بضم آخره؛ أي: وصلُ.
وقد قرأ ابن كثير وحمزة قوله تعالى: {تقطع بينُكم} بضم النون.
قوله: حِرْمٌ؛ بكسر أوله وسكون وسطه وضم آخره؛ أي: حرام
قرأ حمزة والكسائي قول الله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]
قرآها: {حِرْمٌ على قرية}
قوله: رَؤُفٌ: أي رؤوف؛ وهي قراءة أبي عمرو في قول الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
وقبل وفاته بأربعة أيام؛ اتصل الأستاذ الخرشي بالقارئ عمر القزابري وعزاه في عمه؛ السيد محمد القزابري رحمه الله؛ مؤذن مسجد حي “أسيف”، قائلا: “أشهد أنك كنت بارا بعمك”.
اللهم اغفر له وارحمه ..