اعلم أيها المسلم أن سرور القلبِ وشَرح الصدر في إنابةِ العَبد إلى الله والإقبالِ عليه والاستعانةِ به، وهذه الأخيرة عبادةٌ عظيمة من سنَنِ الأنبياء والمرسَلين، قال جلّ وعلا عن داودَ عليه السلام: “وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ”، وقال عَن سليمانَ عَليه السلام: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ”، وقال شُعيب عليه السلام: “وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”، وقال نبيُّنا محمّد صلى الله عليه وسلم: “ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”، وأثنى الله على خليلِه إبراهيم لاتِّصافِه بالإنابةِ إليه والرّجوعِ إليه في كلِّ أمر، قال جلّ وعلا: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ”.
والمنيبون إلى اللهِ هم خيرُ مَن يَصحبُهم المرءُ في حياته، يقول سبحانه: “وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ”.
والإنابةُ إلى اللهِ هي مفتاحُ السّعادة والهدايةِ، قال سبحانه: “قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ”.
والبِشارة لأهل الإنابة: “وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى”.
ولا يعتبِر بالآيات ولا يتَّعظ بالعِبَر إلاّ المنيب إلى ربِّه، قال عز وجل: “تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ”، وهو المتذكِّر بنزولِ النّعم، “وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ”.
والإنابةُ إلى الله مانعةٌ من عذابِ الله، “وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ”.
والجنّةُ أعِدَّت نُزُلا للقلبِ الخاشع المنيب، قال جل جلاله: “وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ”.
أمره سبحانه بالإنابة وبيان حقيقتها
أمَر الله جميعَ الخَلق بالإنابة والرجوع إليه، قال سبحانه: “مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ”.
وحقيقتُها الرجوعُ إلى الله، وهي منزلةٌ أعلى من التوبة، فالتوبةُ إقلاعٌ عنِ الذنب وندَم على ما فات وعَزمٌ على عدَم العودة إليه، والإنابةُ تدلّ على ذلك وتدلّ على الإقبالِ على الله بالعِبادات، “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ”.
ومَن أكثرَ الرجوع إلى الله كان الله مفزَعَه عند النوازِلِ والبلايا والفواجِع، فحقيقٌ بالمرءِ أن ينيبَ إلى ربِّه وأن يحاسِبَ نفسَه على ما سَلَف وعلى ما اقتَرَف من عِصيان، يقول الحسن البصري رحمه الله: “إنَّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانَتِ المحاسبَةُ هِمَّتَه”.
والمؤمِن في الدنيا كالغريبِ؛ لا يجزَع من ذلِّها، ولا ينافِس في عِزِّها، له شأنٌ وللنّاسِ شَأن”، واعمَل بوصيَّةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كُن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيل) رواه البخاري، ومن كانتِ الآخرة همَّه كانت هِمَّته في تحصيلِ الزاد الصالح، وإذا استيقَظَت القلوب استعدَّت للآخرة، قال بعض السلف: “ما نِمتُ نومًا قطّ فحدّثتُ نفسِي أني أستيقِظُ منه”، ومَن اجتَهَد في محاسبةِ نفسِه ولَجَمها عن العصيان نجا في الآخرةِ منَ النّدامة والخُسران.
الإنابة إقلاع عن الزلات وعمل بالخيرات
المنيب إلى ربه لا يغفلَ عَن زلاّت نفسِه وخَطَراتها وخَطَواتها، بل يقودُها إلى ما يقرِّبها إلى ربِّها، فالمحافظَةُ على الصلواتِ جماعةً في بيوتِ الله من شعائرِ الإيمان، والدعوة إلى الله تنير البصيرةَ، وبِذِكر الله تلينُ القلوب، قال سبحانه: “أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”، ومجالسةُ العلماء والصالحين وملازَمَة دروسهم من أسبابِ خشيةِ الله ومراقبَتِه، “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”، وبِرُّ الوالدين مفتاحُ السّعادة، وصِلَة الرّحِم بركة في الوقتِ والرّزق، والمال الحلال سبَبٌ في صلاح الأبناءِ وإجابةِ الدعاء، وقِصَر الأمَل دافع للعَمَل، وتَذَكُّر الموت خيرُ واعِظ، وزِيارةُ المقابر والتأمُّل في أحوال الموتى تذكيرٌ بالآخرة، والتطلّع إلى سِيَر السّلَف يهذِّب النّفسَ ويحدو للعمل، قال ابن القيِّم رحمه الله: “ومن تأمَّل أحوالَ الصحابةِ وجَدَهم في غايةِ العمل مع غايةِ الخوف، قال: ونحن جمَعنا بين التّقصِيرِ بل بين التفريطِ والأمن، وكان الصِّدِّيق يقول: (وَدِدتُ أني شعرةٌ في جنبِ عبدٍ مؤمن)، وكان إذا قامَ إلى الصلاة كأنّه عودٌ مِن خشية الله”.
والرّشيدُ مَن خاف على نفسِه الوقوعَ في الزّلَل أو الإقرارَ على الخَلَل، فالصحبةُ السيّئة تورِد المهالك، وإطلاقُ عَنانِ البَصَر في المحرَّمات مما يشاهَد في الفضائيّات والطُّرُقات يضعِف زَكاءَ النّفس، وإهمالُ الأبِ إصلاحَ أهلِ بيتِه تفريطٌ في الأمانة، واتّباعُ الهوى والشهواتِ يورد الندامة، وإطلاقُ اللّسان بالكذب وفي أعراضِ المسلمين يظلِم القلبَ، وإشغالُ النفس بما لا يعنيها حِرمانٌ لها ممّا يرفَع درجاتها، يقول إبراهيم بن أدهَم رحمه الله: “من علامةِ إعراضِ الله عن العبد أن يشغِلَه بما لا يعنيه”، والتّقصيرُ في إنكارِ المنكَر بالحسنى ضَعفٌ في النّصح، ودَواء السيِّئات كثرة الاستغفار، وتَرك الخطيئةِ أيسَر من طلبِ التّوبة، واغتَنِم الأعمالَ الصالحة قبل أن يحولَ بينك وبينها حائل.
والموفَّق لذلك هو المنيب إلى الله بالإقلاع عن المنكرات والإكثار من أنواعِ الطاعاتِ والقُرُبات.
درجات الناس في الإنابة إلى الله
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في المدارج بتصرف:
..والناس في إِنابتهم على درجات متفاوتة:
– فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر.
– ومنهم المنيب إليه بالدخول في أَنواع العبادات والقربات، فهو ساعٍ فيها بجهده.. ومصدرها الرجاءُ ومطالعة الوعد، والثواب، ومحبة الكرامة من الله.
– ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع، والدعاء، والافتقار إليه، والرغبة، وسؤال الحاجات كلها منه، ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة، والغنى، والكرم، والقدرة.
فاللهم ارزقنا إنابة إليك صادقة مخلصة، تحمل النفوس على التعلق بك، والانصراف عن سواك.