مقالات في الحرية ملامح الحرية في الثقافة الغربية كتبه ذ طارق الحمودي

إن قضية الحرية… أو قل إشكالية الحرية من المسائل الأساس التي اشتغل عليها العقل الفلسفي ولا يزال؛ وما يزال مصطلح (الحرية) إلى اليوم مصطلحا له مردودية سياسية وفكرية لا بأس بها في سوق الدجل الفكري.. الغربي.. والاستغرابي العلماني.
وينبغي الاعتراف بأن هذا الموضوع من أكثرها حساسية.. في الفكر الغربي.. والفكر المستغرب.. كيف لا وقد جعلها أمثال أفلاطون سيد الفريقين وإمام الطائفتين في (جمهوريته) الشيء المقدس الوحيد؛ تقريبا!!
وقد كنت أشرت في المقال السابق إلى أن مصطلح الحرية مصطلح يشبه الماء في أنه يأخذ شكل الإناء الذي يفرغ فيه، وهو منطق الفلسفة الوجودية كما كنت نبهت، وهو مذهب كثير من المغنيين لأغنية (الحرية) من الأصوات المطربة من بني علمان…!
لقد درج بنو علمان عندنا على حكاية (المصطلح) دون تحفظ أو تفصيل، ولم أجدهم يستطيعون التفرقة بين الحرية بمعناها الفلسفي وبين الحرية بمعناها السياسي -إن كان لها معنى عندهم- كما فعل مونتيسكيو في (روح القانون).
فإن الأولى محلها الفكر؛ والثانية محلها الأفعال.. وقد يجتمعان وقد يفترقان! ولكن بني علمان لا يعقلون! أو يتغافلون!
فالأولى عند فلاسفة الغرب مطلقة لا يقيدها شيء.. والثانية حرية ناتجة عن الحاجة، منضبطة بضابط الأخلاق، أو بضابط العقد الاجتماعي، أو بضابط القانون الطبيعي الذي ركز عليه كثير من فلاسفتهم، وهو أقبح مظاهر الحرية الغربية!!
ومعناه أنه لا قيد إلا قيد الطبيعة الحيوانية فقط…!
ولذلك صرح سبينوتزا في كتابه (l’ethique) في الفصل الأول المتعلق بالإله بأنه لا وجود لكائن يفكر ويفعل بكل حرية إلا الإله.. ثم فسر الإله بأنه الطبيعة، لأنه لا يكون الكائن حرا إلا إذا كان ذلك نابعا من وجوده هو لا من وجود غيره.
تقوم هذه النظرية على أن معنى الحرية هي الوعي بالأفعال الملبية للحاجيات الشهوانية -خلافا للبهيمة- دون معرفة سبب ذلك، والمحقق في مذاهبهم سيجد نفسه أمام (مصطلح) فارغ من معنى حقيقي له قيمة خلقية وإنسانية؛ كما قال دينيس ديديرو في (Lettre à Landois) وقد أشرت إلى شيء من هذا فيما مضى.
ومن العجيب أن سبينوتزا في (رسالة في اللاهوت) لم يستبعد أن تكون حرية التفكير والرأي هي الأخرى مقيدة بسبب التأثير الخارجي أو الأحكام المسبقة، مما يؤكد أن الحرية ليست قيمة مجردة بل يتحكم في تحديدها محيطها وبيئتها..!
وهنا وهناك افترق الإسلام عن الفلسفة الإلحادية.. بأن جعل الحرية محددة بالشرع، أما الحرية في الوجودية فيحدد معالمها الإنسان نفسه.. ولذلك تلاحظ في (طلسمات) بني علمان عندنا كثرة الدندنة على أن الإنسان هو مركز الكون…فتنبه!
وقد عرّف (كانت) الحرية في (critique de la raison pratique) بمعناها التطبيقي العملي بأنها الاستقلال بالإرادة من كل قانون سوى قانون الأخلاق! ومعنى الاستقلالية عنده هو التقيد بالإرادة العقلانية. وخلاصة هذا أن ليس ثم حرية عملية مطلقة عن القيد.. إجماعا.
ومن المثير أيضا أن هؤلاء حينما يتحدثون عن العقل أو العقلانية فإنهم يموهون كما هي عادتهم، فلا ضابط للعقل عندهم إلا الهوى. وقد كنت بينت هذا في مقالات سابقة عن العقل في الإسلام من منظور سلفي.
ويقرر فريديريك نيتشه في كتابه (humain .trop humain) أيضا أن لا شيء يستطيع الإفلات من التصرف بدافع الحاجة.. وأنه ليس هناك فعل يقع ابتداء بدافع الإرادة الحرة المطلقة المجردة، وهذا موافق لما عرف به سبينوتزا الإله…!
أما سارتر إمام الوجودية الملحدة.. فله مذهب قائم على جرف هار انهار به ولا يزال ينهار بأتباعه، فهو يعتقد أن الإنسان يجب عليه احترام نفسه، واحترام القيم الأخلاقية والإنسانية.. ثم بعد ذلك يجعل مصدر تلك القيم الإنسان نفسه.. أي أنه يحترم ما يرى أنه يجب احترامه لا ما يراه غيره..
وتكون النتيجة أنه لا وجود لاحترام بمفهومه الإنساني الحضاري، ولذلك أنصح بالانتباه والحذر من المصطلحات الموهمة التي يستعملها بعض بني علمان المغاربة الوجوديين.. المتسترين في ثياب الحداثة المرقعة…! فإنهم يستعملونها ولا يعرفون لها معنى ثابتا كأساتذتهم.. فالحذر الحذر!
وقصدي من كل هذا أن أذكر بني علمان بأنهم أحرار في اعتقاد ما شاؤوا، أو عدم الاعتقاد في شيء أصلا إن أرادوا.. فلا إكراه في الدين.. وموعدهم موقف بين يدي الله تعالى.. ومع ذلك فهم ليسوا أحرارا في تصرفاتهم وأقوالهم في مجتمع مسلم له أخلاقه وثقافته ومؤسساته التاريخية والاجتماعية…!
فإن كانوا صادقين في دعواهم الحرية العملية فليحترموا العقد الاجتماعي الذي يعيش به الشعب المسلم.. وأسه الإسلام… وإلا فليبحثوا عن مجتمع آخر يبيح لهم ما لا يبيحه الإسلام! أو لينشئوا مجتمعا يخصهم.. ولا يكون هذا إلا بالانقلاب الأخلاقي عليه أو السياسي أحيانا حفظنا الله منه.. أو ليجلسوا على مائدة الحوار الاجتماعي! إن كانوا راشدين عوض هذا الفجور السياسي والإعلامي!
وإلا فإني أعتقد يقينا أنه ليس للحرية في الغرب مظهر منضبط أو أمارات مستقرة؛ إلا أن تكون الحرية عندهم حرية الطبيعة والاستسلام لحاجياتها، دون مراعاة لأخلاق أو قانون اجتماعي. وهذا هو مرض الغرب اليوم.. ويسعى بنو علمان جاهدين في أن نصاب بالعدوى به عن طريقهم وقد نجحوا في ذلك في كثير من الهوامش الاجتماعية، ولا زال الجسم المغربي المسلم يقاوم بشدة، ولا تزال المدافعة إلى ما شاء الله..!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *