لا شك أن المغرب قد عرف تحولا كبيرا من حيث المسار الذي يحكم السياسة العامة في البلاد، فطيلة ثلاثة عشر قرنا كان الإسلام هو المهيمن على التشريع والمجتمع والسياسة والثقافة، وذلك إلى غاية مطلع القرن المنصرم، حيث عرف مثله مثل باقي البلدان الإسلامية تسلط الاستعمار الأوربي العلماني فحلت القوانين العلمانية محل التشريع الإسلامي، وبعد الاستقلال هيمنت الإملاءات الأجنبية الاستعمارية خلال المشاورات والاجتماعات التي سبقت جلاء المستعمر، وكانت أداة تنفيذها بعد ذلك نخبة من العلمانيين الذين تربوا على مناهج الغرب أو في مدارسه، فقاموا بتكريس العلمانية حتى وصلنا إلى اليوم الذي يَسُبُّ فيه العلمانيون الرب سبحانه، ويستهزؤن بكتابه وينتقصون من نبيه صلى الله عليه وسلم.
ونظرا لكون تجاهل الصراع الذي بدأت تتضح معالمه يوما بعد يوم والذي من شأنه أن يدخل المغرب في متاهات أعمال العنف والتطرف خصوصا مع استفحال التطرف العلماني الذي لم يعد يرقب في المغاربة إلاًّ ولا ذمة، واعتبارا لما تكتسيه محاولات تقزيم هذا الأمر من خطر على أمن واستقرار بلادنا، نرى من الواجب القيام بتحليل بعض ما يحاول الكثير من الناس اختزاله في كونه نوع من الاحتراب الايديولوجي السياسي بين الأحزاب العلمانية وبعض الحركات التي ارتأت دخول اللعبة السياسية كما ينعتها أصحابها.
بعض مظاهر الصراع بين العلمانية والإسلام بعيد الاستقلال
يعتبر الإسلام الديانة الوحيدة التي استطاعت بناء دولة استمرت طيلة ثلاثة عشر قرنا قدمت خلالها للعالم الأنموذج المحتذى في كل المجالات، خصوصا في نظام الحكم المبني على العدل والمساواة في الحقوق، وفي النسيج المجتمعي المبني على الأخلاق الدينية الرفيعة مما جعل الناس يدخلون فيه أفواجا ولا يزالون، رغم الاستضعاف الذي يعرفه أهله في جل بقاع العالم.
ولمعرفة العلمانيين الجيدة واليقينية بقدرة الإسلام على النهضة والانبعاث، مما يجعله نظاما قابلا للسيادة كلما وجد من يطالب به، حرصوا دائما على حربه، وقد تجلت مظاهر هذه الحرب في:
– إقصائه عند صياغة القوانين المنظمة لسلوك المسلمين ومعاملاتهم والاستعاضة عنه بالقوانين الفرنسية.
– إقصاء العلماء الذين كانوا يشكلون العنصر البشري الأساسي لكل الإدارات واستبدالهم بالموظفين ذوي الثقافة العصرية المستلبة بالنموذج الغربي العلماني.
– تزهيد الناس في علمائهم وذلك بحياكة الأكاذيب حولهم ونعتهم بأقذع الأوصاف حتى يستبدل الناس قدوتهم وقياداتهم.
– تهميش دور القرآن والسنة في ميدان التربية والتعليم واختزاله في مادة التربية الإسلامية التي أسندت في الغالب إلى أساتذة الفلسفة العلمانيين مما جعلهم ينفرون أبناء المسلمين من دينهم الحنيف وتاريخهم العظيم.
– تقزيم دور المسجد وإغلاقه طيلة اليوم بحيث لا يفتح إلا قبيل الصلاة بدقائق معدودة مما جعل تعاليم الإسلام تنحسر وتنتفي من المجتمع بموت العلماء وكبار السن، مما سرَّع وتيرة الجهل بالدين وفشو الخرافات والبدع، تيسر معه علمنة سلوك المغاربة وانتشار الأفكار العلمانية سواء منها الاشتراكية أو الرأسمالية.
– تشجيع السلوكات المخالفة للدين كالسفور والاختلاط في المؤسسات التعليمية، ونشر الربا والخمور لإفساد الأخلاق التي تعد الحصن الحصين للشباب والمانع لهم من الانسلاخ عن دينهم وهويتهم.
– فرض فصل الدين عن السياسة بشكل يضر بالدين ويُقوِّي السياسة عليه، وبشكل يجعل الدين ممنوعا من أن يمس شؤون السياسة في الوقت الذي يسمح للسياسة بالعبث في الدين عقيدة وأحكاما وتاريخا ولغة..إذ من الملحوظ أن السياسي يوجه الخطيب في خطبته والعالم بالدين في درسه وليس للعالم أو الخطيب أن يوجه السياسي أو ينتقده.
ورغم كل مظاهر العداء العلماني للإسلام استطاع المغاربة أن يرجعوا إلى التمسك بالإسلام، فبعد التنورة القصيرة والعري الفاضح أصبح الحجاب الشرعي بل أيضا “الحايك” في شكله القديم-الجديد: المتمثل في “النقاب” ينتشر في المجتمع المغربي معلنا بداية مرحلة جديدة واعية بالاستهداف العلماني للتدين لدى الأفراد والأسرة، كما زاد من قوة الرجوع إلى الدين كثرة الفضائيات التي تهتم بنشر تعاليم الإسلام وكذا الكتاب الإسلامي والشريط الدعوي..مما دفع بالعلمانيين إلى الإمعان في الحرب والتصدي مستعينين بالعلمانيين الأجانب من عرب وأوربيين وأمريكيين، آخذين بمقولة: ” الهجوم خير وسيلة للدفاع “.
تهديد التطرف العلماني لأمن واستقرار المغرب
المتتبع لما يطرأ في المغرب من تغيرات ومستجدات على صعيد البنية الاجتماعية والسلوكية لمواطنيه، يدرك أن الصراع المحتدم بين العلمانية والإسلام مرده إلى عاملين أساسيين اثنين:
أ- الإكراهات التي يمارسها المتدخل الأجنبي على المغرب وذلك بفرض القيم الغربية على المواطنين المغاربة من خلال القروض والمنح من جهة ومن خلال الرقابة المستميتة للمنظمات الدولية على المجتمع والتي تحركها القوى الكبرى المستفيدة من عولمة نموذج كوني وحيد تنمحي فيه كل الخصوصيات وكذا الاستجابة الكاملة من طرف التيارات العلمانية لتلك الشروط بل ممارسة الضغوط على الدولة من أجل الرضوخ والانصياع.
وقد تجلت تلك الضغوط بالخصوص في تغيير فصول المدونة، وتغيير أهم بنودها، وكذا في سن قانون الإرهاب استغلالا للظرفية الدولية والوطنية.
ب- الوعي الكبير لدى الشباب المغربي بضرورة الرجوع إلى الدين ونشره بين الناس بحثا عن التوازن النفسي والطمأنينة القلبية الناتجة عن تطبيق التعاليم الدينية، يقينا منهم أن لا خلاص من الواقع المنحرف الموبوء إلا بالرجوع إلى الله سبحانه.
ونظرا لانتشار هذا الوعي أصبحت الشخصية الإسلامية للمواطن المغربي تأخذ مكانها من المجتمع، فانتشرت اللحية والحجاب في الإدارة والمؤسسات التعليمية كمؤشر على العودة إلى الهوية وانبعاثها من جديد.
هذان الأمران (أ – ب) جعل الحرب العلمانية ضد الإسلام تعرف احتداما منقطع النظير، بحيث أصبح الدين عرضة للاستهزاء والسخرية والتنقيص وهذا ما تقوم به كل الصحف والمجلات العلمانية وعلى رأسها “الأحداث المغربية” و”مجلة نيشان”، محاولة منهم لِجَرِّ الملتزمين بالإسلام إلى أعمال عنف وتطرف تعمد على إثرها السلطة إلى المزيد من الاعتقالات حتى يترسب في أذهان الناس أن اللحية والحجاب والنقاب والالتزام بالدين يؤدي لا محالة إلى التطرف.
إن هذا الغلو والتطرف العلمانيَيْن إن لم يقابَلا بحزم ومسؤولية لا بد أن تكون لهما آثار سلبية على أمن واستقرار المغرب، فالسلطة يجب أن توازن بين مستلزمات التقدم والتحديث دون أن تسقط في نصرة العلمانية على الدين.
فمثلا، بعد جريمة الاستهزاء بالمقدسات التي اقترفتها مجلة “نيشان” في حق المغاربة أجمعين، ما زلنا نسمع وبكل صفاقة أصواتا علمانية تستنكر قرار الحكومة بمنع تداول المجلة ونشرها في الأماكن العامة معتبرين أن ما قامت به المجلة يندرج ضمن حرية التعبير مطالبين بتعديل هذا الفصل المحتشم –الصحيفة العدد83 بتاريخ 23/24 دجنبر 2006، هذا الفصل الذي يُعتبر آخر ما تبقى من مظاهر الرقابة الحكومية على وسائل الإعلام والذي لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال ضامنا أو رادعا للعدوان العلماني على الدين وأهله.
إن المساس بالمقدسات هو من صميم منهج التغيير العلماني الذي يرمي إلى تحطيم كل مقدس حتى يسود المفهوم الليبرالي للحريات، فنصبح كما هو شأن المجتمعات الغربية التي تعرف أعلى معدلات الجريمة على اختلاف أنواعها، وأعلى نسب التحرش الجنسي بالمرأة رغم القوانين التي تجرم ذلك، مما يؤكد أن الرجوع إلى الدين هو الحل الأمثل للحد من انتشار الجريمة والأمراض الفتاكة كالسيدا، أما حرية التعبير وباقي الحريات بالمفهوم الليبرالي الإباحي المتهتك والذي يعني منع المنع ورفع كل القيود، فلا يزيد إلا من انتشار الاختلالات الاجتماعية والصحية والسياسية والدينية.
لا لحرية التعبير بالمفهم الغربي
إن المغاربة المسلمين مستعدون أن يتخلوا عن حرية التعبير بالمفهوم الغربي العلماني والتي يستهين المروجون له بمقدسات أمتهم من أجل بناء مغرب حداثي موهوم.
إن الحداثة كما عَرَفها الغرب لم تقم إلا على تقديس الإنسان وجعله المحور والمركز لكل شيء، وبالمقابل تدنيس كل مقدس، حتى لا يبقى مقدس في الوجود سوى حرية الإنسان، ومن ثم كان شرطا أن يتم التهجم على أقدس المقدسات وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم أنبياؤه عليهم الصلاة والسلام، وما أنزله من كتب وشرعه من شرائع.
إن الحداثة التي يدعو إليها العلمانيون والتي تتخذ من تدنيس المقدسات منهجا، أصبحت تشكل مصدر قلق لكل مغربي، خصوصا في ظل الغياب الشامل لأية رقابة على المواد الإعلامية فبالأمس استهزأ فيلم “ماروك” بالدين والعقيدة بشكل صارخ، ومع ذلك سُمح له بالعرض في القاعات العمومية، ثم قام برلماني اشتراكي بالتنقص من الإسلام قرآنا وسنة وتاريخا، ولم يستطع أحد على الأقل مقاضاته، وتكررت المحاولات الواحدة تلو الأخرى.
إن المغاربة أجمعين ينظرون إلى محاكمة القائمين على مجلة “نيشان” على أنها تمثل أقل ما يمكن للدولة أن تقوم به للدفاع عن عقيدتهم ودينهم ضد من استهدف مقدساتهم، آملين أن يعدل القانون حتى يتطابق مع تعاليم شريعتنا، التي صانت لنا الدين قرونا طوالا، ما كان يتجرأ العدو في ظلها أن يستهين ولو بالمضمضة من الوضوء فضلا أن يقوم أبناء المسلمين بالاستهزاء برب السماوات والأرض وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.