واللَّهِ ما أدْرِي وأَنَا رَسول الله ما يُفْعَلُ بي ولَا بكُمْ

 

ربَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه على البُعْد التام عَنِ الدُّخول في الحُكم لأحد بالجنَّة مهما كانت طاعته وعبادته وصلاحه، أو الحُكم على أحدٍ بالنَّار مهما كانت معاصيه وذنوبه وخطاياه، فالإنسان له الظَّاهر مِن أخيه، أمَّا السَّرائر فلا يَعلَمُهما إلَّا الله سبحانه.. ومِنَ الآفات الخطيرة أن يتوهم الإنسان أنه أصبح وصِيَّاً على الناس، فيحكم لهذا بالجنة، ولهذا بالنار، وهذا يتناقض مع هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته المُشَرَّفَة..

ومِن المعلوم أن السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة، لِما تحمله بين ثناياها مِنَ المواقف التربوية، والفوائد الجليلة، التي تضع للدعاة والمعلمين والمُربين منهج التربية وحُسْن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها.. ومِنْ هذه المواقف مِنَ السيرة النبوية موقفه صلى الله عليه وسلم مع أم العلاء رضي الله عنها حين قالت عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما تُوِّفِّيَ: (فَشَهادتي عَلَيْك لقَدْ أكْرَمَك اللَّه)، وقوله صلى الله عليه وسلم لها: (واللَّهِ ما أدْرِي – وأنا رسول اللَّه – ما يُفْعَلُ بي ولا بكُم).. قال ابن حجر في “الإصابة في تمييز الصحابة” عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه: “توفي بعد شهوده بدراً في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول مَنْ مات بالمدينة من المهاجرين، وأول مَنْ دُفِن بالبقيع منهم”..

عن أم العلاء رضي الله عنها قالت: (طَار لنا عثمان بن مَظْعون في السُّكْنَى، حِين اقْتَرَعَت الأنْصَارُ على سُكْنَى المهاجرين، فَاشْتكى فَمَرَّضْنَاه حتَّى تُوُفِّي، ثُمَّ جَعَلْناه في أثْوابه، فَدَخل علينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلتُ: رَحْمة اللَّه عَلَيْك أبَا السَّائِب (كُنية عثمان بن مظعون)، فَشهادتي عَلَيْك لقَدْ أكْرَمَك اللَّه، قال صلى الله عليه وسلم: وما يُدْرِيكِ؟! قُلتُ: لا أدْرِي واللَّه، قال: أمَّا هو فقَدْ جَاءَهُ اليَقِين (الموت)، إنِّي لأرْجو له الخَيْر مِنَ اللَّه، واللَّه ما أدْرِي – وأَنَا رسول اللَّه – ما يُفْعَل بي ولا بكُم. قالَت أُمُّ العَلاء: فَوَاللَّه لا أُزَكِّي أحَدًا بَعْدَه. قالتْ: ورَأَيْتُ لِعُثْمَان في النَّوْمِ (رؤيا في النوم) عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذلك له، فقال: ذلك عَمَلُه يَجْرِي له) رواه البخاري. وفي رواية قالت: (هنيئا لك الجنة يا أبا السائب).

قال ابن حجر: “قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني رسول الله، وما أدري ما يُفعل بي): إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}(الأحقاف:9)، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}(الفتح:2)، لأن الأحقاف مكية وسورة الفتح مدنية بلا خلاف، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول مَنْ يدخل الجنة) وغير ذلك مِنَ الأخبار الصريحة في معناه، فَيَحْتَمل أن يُحْمَل الإثبات في ذلك على العلم الْمُجْمَل، والنَّفْي على الإحاطة منْ حيث التَّفْصِيل”.

وفي “تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة”: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي ولا بكم): يريد به نفي علم الغيب عن نفسه، وأنه غير واقف وغير مُطلع على المُقّدَّر له ولغيره، والمكنون من أمره وأمر غيره، لا أنه متردد في أمره، غير متيقن بنجاته، لما صح من الأحاديث الدالة على خلاف ذلك”…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *