نيل المنى

لاكن على الفعل بالاكتساب *** ترتب الثواب والعقــاب
والشرع قد ميز في الافـعال *** بمقتضى التفصيل والاجمـال
«لا كن على الفعل» الحاصل من المكلف «بـ» «الإكتساب» يقع «ترتب الثواب» كما في سن السنة الحسنة «والعقاب» كما في سن السنة السيئة.
والأدلة الواردة في هذا الشأن كثيرة «و» هنا أمر ينبغي بيانه وهو أن «الشرع قد ميز» وفرق «في» حكمه على (الأفعال) فلم يسو بينهما في الأحكام وذلك ثابت «بمقتضى» وحكم ما ورد عنه من (التفصيل) بذكر الجزئيات التي بينهما هذا التمييز -كما في المكروهات والمحرمات والواجبات والمندوبات الواردة في النصوص الشرعية بالتفضيل و«الإجمال» بذكر الكليات التي يجري فيها هذا التمييزـ كما في أصول الدين وفروعه ـ ومرد ذلك كله إلى قوة المصلحة وضعفها، وقوة المفسدة وضعفها، ولذك فالشارع إنما ميز في الأفعال.
بين الذي تعظم فيه المصلحة ** بجعله في الدين ركنا أوضحه
أو الذي تعظم فيه المفسـدة ** ففي كبائر الذنوب عـدده
وبين ما ليس بذي الوتيـرة *** فعده احسانا أو صغــيرة
«بين» الفعل «الذي تعظم فيه» يعني في كسبه «المصلحة» الشرعية، ويتجلى ذلك «ب» أي في «جعله» أي الشارع له «ركنا» أي أصلا «في الدين» لا فرعا «أوضحه» أي بينه صفة «لركنا» أي ركنا موضحا ومبينا منه.
ويصح أن يكون خبرا إذا جعلت الفاء محل الباء في قوله «بجعله» فيصير «فجعله» -بالرفع مبتدأـ أي فجعله ركنا في الدين ركنا أوضح هذا التمييز، ويمكن أن يكون معطوفا على قوله «ميز» بإسقاط حرف العطف، فيكون المعنى: والشرع قد ميز في الأفعال (…) بين الذي تعظم فيه مصلحة وأوضح ذلك.
وعلى كل حال: خلاصة القول أن الشارع قد ميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنا. «أو» بمعنى الواو ـأي وكذلك ميز بين الفعل «الذي تعظم فيه» يعني في كسبه ووقوعه «المفسدة ف» جعله «في» أي من «كبائر الذنوب» و«عدده» منها «وبين ما ليس» من الأفعال منتصفا بذي أي هذه «الوتيرة» أي الصفة، فلم تعظم مصلحته ولا مفسدته «فعده» إذ لم تعظم مصلحته «إحسانا» أو فرعا «أو صغيرة» إذ لم تعظم مفسدته. فقوله إحسانا يقابله الركن، والصغيرة تقابلها الكبيرة على طريقة اللف والنشر المرتب.
المسالة التاسعة
وحيث قيل في المســببات *** ليست الى العباد مقدورات
وإنما التكليف بالأســباب *** يبنى على الحكم في ابـواب
من ذاك ان من أتى بالسبب *** لاكن على كماله المستوجب
«المسالة التاسعة»
فيما ينبني من أمور على ما تقدم ذكره من ان المسببات غير مقدورة للمكلف، وان السبب هو المكلف به.
قال الناظم: «وحيث قيل في» شأن «المسببات» أنها «ليست إلى» ـ بمعنى اللام ـ أي للمكلفين «العباد مقدورات» أي موجودات بقدرهم، أو مما يدخل تحت قدرتهم كما يقال هذا مقدور لزيد، وهذا مخلوق لله وبذلك لم يكونوا مكلفين بكسبها وإنما «التكليف الشرعي» الثابت لهم حاصل «ب» يعني: في كسب الأسباب فقط، فإنه ينبني عليه الحكم الشرعي الذي تقرر في ابواب و أمور فقهية مختلفة «من ذاك» الذي ينبني حكمه على هذا أن «من أتى بالسبب» غير ناقص «لا كن» يعني بل أتى به «على كماله» بتوفر شروطه وارتفاع موانعه، فكان الكمال «المستوجب» المستحق شرعا أي الذي يستحقه ذلك السبب شرعا.
ثم نوى في ذلك المسبب *** ان لا يرى عن ذلك التسبب
فلا يكون مثل ذا بحـال ** وصد تكلف المحــــال
بمن عه ما لا يطيق منعه *** ورفعه ما لم يكلف رفــعه
«ثم» إنه بعدما أتى بذلك السبب نوى في ذلك المسبب الذي تسبب فيه على تلك الصورة صورة الكمال المذكورة أن لا يرى أي أن لا يقع مترتبا «عن ذلك التسبب» المذكور فإنه قد ناقص مقتضيات العقول والشرع وبذلك «فلا يكون مثل ذا» القصد إلا عبثا فهو لن يقع ب أي حال من الأحوال وقصده هذا إنما هو من باب «تكلف» تحصيل المحال وكسبه، وذلك ب سبب «منعه» بسبب تكلفه منع «ما لا يطيق منعه» ولا يقدر عليه وبسبب «رفعه» أي بسبب تكلفه رفع «ما لم يكلف» ولم يحمّل «رفعه» وكل ذلك يدل على أنه عابث، فحكم الشرع ماض في ذلك على كل حال، فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع، أو بيعا أو شيئا من العقود ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه فقد ضاع قصده عبثا، ووقع المسبب الذي أوقع سببه.
وكذلك إذا اوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع، ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك، فهو قصد باطل، ومثله في العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما أمر، ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة وما أشبه ذلك، فهو لغو، وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة، وفيه جاء (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا) المائدة: 87، ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا، من المأكول والمشروب، والملبوس، والنكاح وهو غير ناكح في الحال ولا قاصد للتعليق في خاص ـ بخلاف العام ـ وما أشبه ذلك، فجميع ذلك لغو؛ لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكلف السبب فيه، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الولاء لمن أعتق) وقوله: (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) الحديث¹.
وكما كان هذا عابثا من جهة تكلفه تحصيل ما لا يطاق له فانه -أيضا- مخالف لقصد الشارع في المسبب، وهو حصوله عند وجود سببه.

ــــــــــــــــ
1 الموافقات 1/115

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *