– قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين} (الآية: 16).
كلمة {اشتروا} تفهم على غير وجهها، فكيف يمكن أن يشتروا الضلالة بالهدى.
قال القرطبي: «واشتروا: من الشراء، والشراء هنا مستعار؛ والمعنى استحبوا الكفر على الإيمان، كما قال: {فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: 17)، فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه، فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان، وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء».
وقال أبو جعفر: «إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ، فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا؟»
وذكر الأقوال الواردة في ذلك إلى أن قال: «والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة: 108)؟ وذلك هو معنى الشراء، لأن كل مشترٍ شيئا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه، فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق، فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون».
– قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (الآية: 26).
كلمة {فوقها} تحتاج إلى توضيح يسير حتى تفهم على وجهها.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: «والمراد بما فوق البعوضة ما علاها وفاقها في مرتبة الصغر، ومنها جِنَّةُ النَّسَمِ (الميكروبات) التي لا ترى إلا بالنظارات المكبرة (ميكروسكوب) وكانوا يضربون المثل بمخ النملة، وفي كلام بلغائهم: «أَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَعَزُّ مِنْ مُخِّ الْبَعُوضَةِ» والمعنى أن الله تعالى لا يترك ضرب مثل ما من الأمثال منه سواء كان بعوضة أو أصغر منها حجما، وأقل عند الناس شأنا».
وقيل {ما فوقها}: ما أعظم منها، على اعتبار أن البعوضة أصغر المخلوقات.
وقيل {ما فوقها}: ما دونها، كأن يقال فلان جاهل فيقال وفوق ذلك أي: وأجهل.
قال ابن كثير: «وقوله {فما فوقها} فيه قولان، أحدهما: فما دونها في الصغر، والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت، وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة؛ قال الرازي: وأكثر المحققين، وفي الحديث: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء». والثاني: فما فوقها: فما هو أكبر منها، لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة».
– قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الآية: 31).
{الأسماء كلها} تشكل في الفهم، فما هي هذه الأسماء التي فُضِّل آدم عليه السلام على الملائكة بعلمها؟
قيل في تفسيرها أقوالا متعددة، نجملها فيما يلي:
-1 «علمه أسماء كل شيء حتى القصعة والفسوة»، قاله قتادة.
-2 قال مجاهد: «علمه الله اسم كل شيء: هذا جبل، هذا بحر، هذا كذا، هذا كذا، لكل الأشياء».
-3 قال ابن جبير: «علمه اسم كل شيء حتى البعير والبقرة والشاة».
-4 قال عكرمة: «علمه اسم الغراب والحمامة وكل شيء».
-5 وقال غيرهم: «علمه أسماء الأجناس والأنواع».
وقيل: «علمه أسماء الملائكة خاصة» قاله الربيع بن خثيم.
ولعل هذا القول الأخير هو الأولى بتفسير هذه الأسماء والله تعالى أعلى وأعلم، لكون الألف واللام ترجع إلى معهود ذهني قريب، إضافة إلى اسم الإشارة في سؤال الحق سبحانه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}، فيحتمل أن تكون هذه الأسماء لبعض خواص الملائكة التي خفيت على باقي الملائكة، و المشار إليهم و الله تعالى أعلى وأعلم.
– قال تعالى: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (الآية: 45).
فكلمة {يظنون} تفهم على غير وجهها، إذ يُعتقد أنها من الظن بمعنى الشك، بينما هي بمعنى اليقين أي «يتيقنون».
والظن عند الأصوليين: ما احتمل أمرين يكون أحدهما أرجح من الآخر.
أما في اللغة فيطلق مرادا به اليقين، ليكون بذلك المعنى اللغوي أعم من الاصطلاحي.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: «قوله تعالى: {الذين يظنون} أي يتيقنون، والظن يستعمل في اللغة العربية بمعنى اليقين، وله أمثلة كثيرة، منها قول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} (التوبة: 118)».
قال الشوكاني: «والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} (الحاقة: 20)».
وقوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} (الكهف: 53).
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسير هذه الآية ما نصه: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المجرمين يرون النار يوم القيامة، ويظنون أنهم مواقعوها، أي: مخالطوها وواقعون فيها؛ والظن في هذه الآية بمعنى اليقين، لأنهم أبصروا الحقائق وشاهدوا الواقع».