كنا أيام الصبا نجلس في الفصل الدراسي على الفطرة النقية أنا وصاحبي المسلم المغربي الأمازيغي، فنتسابق وقد تعالت السبابة توشك أن تلامس عنان السقف، فأسبقه لكي أجيب، وأردد الجملة التاريخية التي بلغت عندنا مبلغ التواتر، جملة محفوظة في الصدور حفظ الآية من القرآن، جملة نقول في مطلعها: “سكان المغرب الأصليون هم البرابرة أبناء مازيغ..”.
واليوم وقد صار صاحبي أستاذا للغة العربية، يدرس أبناء المسلمين لغة الضاد بنحوها وصرفها ونثرها ونظمها، وهو بالمناسبة إمام مسجد يشنف آذان مأموميه بقراءة ورش عن نافع بمدودها السداسية المميزة وإمالتها المعتبرة، فهل بعد هذا يا ترى من يحملون دعاوي النزوع الإنفصالي العنصري الحائف، والذين يسيحون بين المنابر الدولية المدخونة، فيقعقعون بسمفونية الشعوب الأصيلة المضطهدة، والحق التاريخي في فضاء تامزغا الكبير، ويصدعون بحتمية خروج المسلمين متأبطين كتابهم المقدس من بلاد الجد كسيلة، ويتهمون العرب المسلمين بالغزاة، وينبزون لغة القرآن باللغة الخشبية الدخيلة، ويهرولون في غير مسعى ليقفوا بين يدي حائط البراق، الغارق اليوم في دموع تماسيح بني صهيون، ليتباكوا وليطأطئوا رؤوسهم، وينبسوا بكلمة الشكوى من صنوف القهر السرابية التي يلاقونها بزعمهم المريض من الغزاة العاربة، صنوف تنكيل تجعلهم يشتركون في دعواهم مع الهنود الحمر، والأبورجين، وعراة إفريقيا الوسطى في مسمى الشعوب الأصلية المقهورة..
فهل يا ترى هؤلاء المفوضون بغير وكالة شرعية، يمثلون البرابرة أحفاد طارق بن زياد، وموسى بن نصير؟ أم هم عصابة مأجورة تنطق عن الهوى، وتقتات بطفيلية مقيتة، ومزايدة ماكرة بقضايا الأمة، مستغلة الظرفية العصيبة التي تمر منها دولة الإسلام، وقد سرى بين أحشاء أبنائها الوهن، فتداعت يأجوج الغرب الصليبي، ومأجوج الشرق الملحد على قصعة خيراتها اللامقطوعة واللاممنوعة، لا من قلة تشكوها، بل من كثرة غثائية يكاد زبدها يذهب جفاءا، لولا فضل الله ووعده الحق وحكمه الحاسم، الذي قرر أزلا وهو نافد ولا بد أبدا بتوريث الأرض لعباد الله الصالحين..، عباد استوطنوا هذا البلد بعقد تأسيسي لا يقلقنا أن نذكر به المزايدين، أنه عقد ديني مبناه على بيعة شرعية بين رجل أعزل، لم يأت راكبا دبابة مدمرة، ولم تسبق قدومه طائرات مغيرة، رجل يحمل بين وشائجه الدموية إمتياز الانتماء لدائرة الشرف السامق، شرف آل بيت النبوة، وطرف ثانٍ هو عبارة عن قبائل بربرية كان يسود نظامها العشائري التطاحن القبلي، ولم تعرف لسيرورتها التاريخية حضارة أبدا، فأين هي ملامح الغزو مع هذا الرباط والتآلف السلمي النقي؟
ثم إن تذرع البعض بما هو مسطور في كراسة التاريخ، والذي كنا نلوكه ولا نزال عن أصلية إعمار البرابرة لبلاد المغرب، إنما هو إصطلاح يحيلنا على السبق الزمني لا غير، ولذلك كنا كثيرا ما نستعيض عن كلمة الأصليون بالأوائل والأقدمين، تنصيصا على أن الأمر لا يعدو أن يكون حركة انتقالية إنسانية من قطر إلى آخر مشفوعة بامتياز السبق الزمني ليس إلا، أما خارج هذا الطرح فالأصل نلحقه حقا وصدقا بجبال الأطلس الراسية، وبسهول درعة، وشجرة الأركان، وأنهار المغرب المتفرعة، ومياهه الجوفية الغنية بمادتي الملح والكبريت، ذات الخصوصية المغربية الأصيلة..
ثم إننا نسأل بحسن نية وسلامة قصد هذا الجيل المستنسخ عن ماهية دوائر القهر المشتركة بين قضيته الواهمة، وبين قضايا شعوب أصلية محصورة بؤر حياتها بين الأدغال، تشارك تماسيح الأمازون ومفترسات الغابة ظروف العيش، وهي مع هذا تعد بقايا من كل ما قد تعرض للإبادة الجماعية على يد المستكشف الأبيض، بينما وبالمقابل يتمتع إخواننا الأمازيغ، بل يملكون رأسمال التجارة الحرة ذات التأثير الأفقي والنفوذ العمودي، فهل يا ترى هناك علاقة بين تلك الحياة وهذه، وبين صاحبي الأمازيغي الذي كان يشاطرني مقعد الدراسة، وهو اليوم أستاذ للغة العربية وإمام راتب تصح صلاة من وراءه بصحة صلاته، وبين هؤلاء النزوعيين الجدد الذين لا يرقبون في أخوة الدين والوطن الواحد إلاّ ولا ذمة، ويشتكون من ظل الإسلام الوارف، فيستجيرون برمضاء نعراتهم النتنة التي أطفأ نارها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، واليوم ينفخ في رمادها النافخون المتربصون بوحدة الدين والتراب الراغبون في القسمة الضيزى؟