شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

المقدمة التاسعة

في أن العلم منه ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو ملح من العلم، ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه؛ وفي ذلك يقول الناظم:

وانقسم العلم لصلـب وملـح           وما سوى هذين فهو مطرح

فالصلب ما أفاد حكم القطع           أو كان راجعا لأصل قطعي

«وانقسم العلم» باعتبار فوائده وثمراته وحكم الشارع فيه ومقاصده منه «لصلب» وصلب الشيء ما به قوام ذاته، كصلب الإنسان، فإنه به انتصابه، ووصف هذا القسم من العلم بالصلب لأنه جوهر العلم المطلوب شرعا؛ «وملح» -وهو القسم الثاني- جمع ملحة -بضم الميم وسكون اللام- وهي لغة: ما يعد مليحا وجميلا، وأما المراد بها هنا فسيأتي بيانه؛ «وما سوى هذين» القسمين «فهو مطرح» منبوذ لا ينبغي الاشتغال به ولا العناية بأمره.

«فالصلب» الذي هو الأصل المعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، بيانه هو أنه «ما أفاد» استفاد «حكم القطع» من الأدلة التي دلت عليه، فصار قطعيا مجزوما بثبوته ومقتضاه، مثال ذلك ما بني على مقتضيات القضايا الضرورية العقلية، وثبت بالاستقراء التام «أو كان راجعا» في بنائه «لأصل قطعي» مجزوم بثبوته وحكمه.

وهو أصول الملـة الكليـة             من الضروريات والحاجية

ومكمل لها من التحسيني             أو مكمل كلا علـى التعييـن

«وهو» أي هذا الضرب من الأصول «أصول» وإخبار الناظم بأصول وهو جمع عن مفرد جائز باعتبار أنه -هنا- يقصد به النوع، والنوع تتعدد أفراده، فمن اعتبر ذلك فهو غير مخطئ، وفي القرآن الكريم {هذان خصمان اختصموا في ربهم}؛ «الملة» الإسلامية «الكلية» -صفة للأصول- وهذه الأصول الكلية هي ما جاء في هذه الملة حفظها «من الضروريات» الخمس «والحاجية» المتممة لحفظ الضروريات المذكورة.

«ومكمل لها» يعني وما هو مكمل «من التحسيني» يعني من التحسينات، «أو» ما هو «مكمل كلا» أي كل واحد من هذه الأنواع المذكورة «على التعيين» يعني بعينه، وهذا بيانه وبسط الكلام فيه يأتي في كتاب المقاصد، وما يذكر -هنا- إنما هو بيان أن الشريعة مبنية على هذه الأصول الكلية التي قام البرهان على أنها قطعية.

وجملة الفروع باستغراق             مسندة لها على الإطلاق

وإن ذا القسم له أوصـاف             ثلاثـة لـه بهـا اتـصــاف

«وجملة» أي جميع وكل أحكام «الفروع» والجزئيات الواردة في هذه الشريعة «باستغراق» وشمول تام «مسندة لها» أي لهذه الأصول ومبنية عليها «على الإطلاق» أي بلا استثناء، فعلم من هذا أن علم الشريعة علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان؛ وهو وإن كان وضعيا فإنه بمثابة العقلي الموضوع به لأنه مبني على الاستقراء التام الناظم لأشتات أفراده، حتى صار في العقل كليا مطردا عاما ثابتا.

ثم ذكر خصائص هذا القسم فقال: «وإن ذا القسم» الذي هو الصلب «له أوصاف» يعني خواص «ثلاثة» ثبت «له بها اتصاف» وتميز عن غيره بها

وهي العموم مع الاطـراد             وذا مـن الشــارع أمــر بــاد

إذ ليس في كلية العمومي             خصوص إلا وهو في عموم

«وهي» أي هذه الخواص، أحدها: «العموم مع الاطراد» فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة أفرادا وتركيبا وهو معنى كونها عامة «وذا» الأمر الذي ذكر «من» أحكام وتصرفات «الشارع أمر باد» ظاهر مطرد.

«إذ ليس» يوجد «في كلية» النص «العمومي» أو المعقول العمومي -المتصف بأنه عام مستغرق لما صلح له دفعة من غير حصر- «خصوص» ما «إلا وهو» يعني إلا وذاك الذي خص داخل «في عموم» آخر، وكلية أخرى. فهو راجع على كل حال إلى عموم، كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة والصاع في المصراة وأشباه ذلك، فإنها خارجة عن أصول وكليات معلومة، إلا أنها وإن كانت خارجة عنها فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها، وهي أمور عامة، فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار -النظر- في أبواب الفقه يبين ذلك. هذه هي الخاصية الأولى التي ذكر أنها العموم مع الاطراد.

وأما الخاصية الثانية، ففيها يقول الناظم:

ثـم ثـبـوتــه بـكـل حــال              من غير تبديل ولا زوال

وهكذا الأحكام لا تزول               ولا يـرى لشأنهـا تبـديـل

«ثم ثبوته» يعني أن الخاصية الثانية لهذا القسم هو الثبوت من غير زوال، فلذلك لا تجد فيها -أي في هذه الكليات- بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها «بكل حال» من الأحوال، سواء كانت أحوالا زمانية أو مكانية، أو أحوال المكلفين، وبذلك فهي على حالها ثابتة «من غير تبديل ولا زوال» لها، بل ما ثبت سببا فهو أبدا لا يرتفع هذا الحكم عنه، وكذلك ما كان شرطا فهو أبدا شرط، وما كان واجبا فهو واجب أبدا.

«وهكذا الأحكام» كلها، فهي «لا تزول» ولا تحول «ولا يرى» يبصر، «لشأنها» أي حالها المثبت لها بالخطاب الشرعي «تبديل» أبدا ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامه على حالها المثبت لها شرعا.

وأما الخاصية الثالثة من خواص هذا القسم فقد أوردها الناظم فقال:

وإنه الحاكم لا المحكوم               عليه …………………..

«وإنه» أي هذا الضرب من العلم هو «الحاكم» والقاضي بالعمل الذي يترتب عليه مما يليق به، «لا المحكوم عليه» الذي يتصرف فيه على وفق ما يحكم به غيره عليه؛ وإنما يستند إليه فيما يدل عليه من حكم، فما اقتضاه أخذ به، فالأعمال المطلوبة شرعا إنما تؤخذ من الأدلة الشرعية، فلا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها، وهو ما لا يخفى سقوطه.

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *