هل هي بداية نهاية الحضارة الغربية؟ -الحلقة الأولى- ذ. الحسن بن الحسين العسال

الحضارة لغة خلاف البداوة، وحضر حضارة: أقام بالحضر، وتحضّر البدوي تشبه بأخلاق الحضر.

للحضارة جانبان: مادي ومعنوي. أما المادي فيتمثل في التطور العلمي والعملي في استثمار الطبيعة وإعداد لوازم الرفاه البشري. وأما الجانب المعنوي فيتمثل في الدين والقيم والأخلاق التي تنظم ارتباط الإنسان بنفسه وبربه وبالطبيعة وبالكون والحياة، ولو فقدت الحضارة جانبها المعنوي لم تعد حضارة وسميت حينئذ مدنية.
وبهذا يعد الجانب المعنوي جوهر الحضارة وروحها وحافظ كيانها ولا يبقى للمدنية دور أساس منها، بل إنها تستحيل -مع غياب الثقافة- السبب الأول لإضعاف مناعتها.
“وهذه حقيقة جديرة بالاهتمام، فالفكر الغربي وبسبب ما توصل إليه من تطور تكنولوجي واكتشاف علمي عظيم جعله يتشبع بالمادية والمنطق التجريبي.. وهكذا شكك بقيمه ومبادئه المعنوية ثم تجرد منها لما عجز عن إثباتها بالتجربة”.
يقول (شبنغلر): “إن دورة أية حضارة لا يمكن أن تتعدى الألف عام؛ ومعنى ذلك أن الحضارة الغربية كانت قد بدأت مرحلة الأفول الروحي بدخولها مرحلة الركود والراحة المادية والتي أطلق عليها المدنية؛ وهي المرحلة التي تسبق انهيار الحضارة وزوالها، بهذا فالحضارة هي العطاء والازدهار الروحي حيث تمر في دورها الأول، أما المدنية فهي مرحلة الشيخوخة والهرم وفقدان الحضارة مناعتها ومقوماتها الروحية وقيمها الأخلاقية”(1).
وإن جون جاك روسو أيضا يرى -ولو في نطاق أضيق من الحضارة- أن كافة أشكال الحكم تتجه في آخر الأمر إلى الضعف والذبول. ولا يمكن كبح التدهور إلا من خلال الإمساك بزمام المعايير الأخلاقية، ومن خلال إسقاط جماعات المصالح الخاصة.
من هذا المنطلق -أي استنادا إلى اعتبار الجانب المعنوي المتمثل في الدين والأخلاق والقيم، جوهر الحضارة وروحها وحافظ كيانها- هل يمكن رصد مؤشرات سلبية تنخر الحضارة الغربية اليوم؟

المؤشر الثقافي
“رغم كل ادعاءات الغرب المتمثلة، في أنه مرتعٌ خصب لحرية التعبير والأديان وقبول الثقافات دون تمييز؛ إلا أن مظاهر العداء للإسلام تتضح يومًا إثر يوم، ولاسيما تجاه حجاب المرأة المسلمة، فمن منا لا يذكر قصة مقتل الدكتورة مروة الشربيني في ألمانيا وفي عقر المحكمة، ثم الممارسات الاستفزازيَّة كما هو الشأن مع الطالبة الجزائرية التي مُنعت من دخول مدرستها في فرنسا؛ لأنها ترتدي الحجاب، في حين يسمح للطلاب اليهود بتقليس قلانسهم.
وهناك -أيضًا- قصة الْمُدرِّسة النرويجيَّة التي فُصلت من مدرستها بحجة أنها تمثِّل خطرًا على النشء، بعد أن أشهرت إسلامها وارتدت الحجاب! فسارعت لرفع عدة دعاوى أمام المحاكم دون جدوى؛ وفي سويسرا حيث كارثة الديمقراطيَّة المزيَّفة التي حظرت بناء المآذن فيها؛ وفي فرنسا تم رفض منح مواطن مغربي الجنسية الفرنسية بذريعة امتناعه عن مصافحة موظفة عند استقباله في مكتبها لتقديم وثائق الحصول عليها! وفي ألمانيا أغلقت الشرطة هنالك مسجدا بحجة علاقته بأحداث 11 شتنبر.. والحبل على الجرار..
وقائمة الحقد الغربي مستمرة، مستندة إلى الإيمان المطلق -الذي لا تزعزعه أو تزحزحه كثرة الشعارات مهما اشتد وميض بريقها- بثقافة النقاء العرقي، والمركزية الذاتية الأوربية، في مقابل “كنعنة”(2) وشيطنة الآخر، ومن ثم العمل على إبادته جسديا أو ثقافيا.
كل هذه الأحداث والقضايا تجعل الغرب -أنكر أو أقر- يتنكر لحضارته، ويخربها بيديه.
هذا الغرب “العتيد” كانت هذه “القشور” -بالنسبة إليه- (الحجاب، المآذن، المصافحة، النقاب..) في الأمس القريب لا تعني له شيئا أصبحت اليوم تقض مضاجعه، ويعقد من أجلها الاستفتاءات، وينظم الحوارات، ويقيم الموائد المستديرة وغير المستديرة، ويشرّع من أجلها القوانين، ويسن التشريعات.
ومن مؤشرات إفلاس الغرب الثقافي أيضا أن القس تيري جونز راعي كنيسة “مركز اليمامة للتواصل العالمي” ومؤلف كتاب “الإسلام من الشيطان” طالب أتباعه بالتصدي لما أسماه “شر الإسلام”؛ معتبرا أن: “القرآن يقود الناس إلى الجحيم، ولذا يجب وضعه في مكانه.. في النار” على حد زعمه وحقده وإفلاسه.
وإن نفس الكنيسة أنشأت موقعا على الفيس بوك تحت لافتة “اليوم العالمي لحرق القرآن”.
وفي السياق ذاته أعلن عدد من القساوسة أنهم سيحرقون القرآن الكريم يوم 11 شتنبر المقبل -حرق الله قلوبهم، كما تحرق غابات روسيا- ويدعون الآخرين لأن يحذوا حذوهم(3).
ولنا أن نتساءل: هل نسي الغرب ذاته، وأضحى يشك في قدراته، إلى درجة اهتمامه الشديد بخصوصيات الآخر، و”جزئيات ثقافته” فضلا عن كلياتها -والتي كان بالأمس القريب يعتبرها قشورا- إلى حد الهوس، أو ربما الوسواس القهري؟
هذا الغرب الذي ادعى في شخص الهالك نيتشه أن الله تعالى(4) قد مات، وحل محله عقل الإنسان، ليتم الإعلان عن دخول الغرب عصر الحداثة بغض النظر عن التاريخ الدقيق لهذا الدخول. وعلى الرغم من أن مصطلح الحداثة حمال ذو وجوه، إلا أن المقصود منه في هذا المقام هو المعنى الذي يقدس العقل ويقصي الدين، بل ويعتبره عائقا لتدفق حرية العقل.
بيد أن الإخفاقات المتتالية التي مني بها الغرب جعل مفكريه، يوجهون الدفة إلى مصطلح جديد يحمل في طياته هدما لمضمون الحداثة. هذا المفهوم الجديد هو ما أطلق عليه “ما بعد الحداثة” والذي يعني أنه مفهوم تدميري لمجمل مرحلة الحداثة وفلسفاتها التي سيطرت على الحضارة الغربية بعد عصر النهضة والثورة الصناعية وتركزت على فكرة التحكم بالطبيعة ومواردها والتحكم بالبشر والمجتمعات.
يقول الأستاذ الطيب بوعزة: “وإذا كان المشروع الحداثي من حيث الأساس إعلاء من شأن الذات الإنسانية وقدراتها العقلية، فإن ما بعد الحداثة كان ضربة موجهة بالضبط إلى هذا الأساس وتفكيكا له، أي نقض العقل ونفي الذات”.
فإذا كانت روح الحضارة الغربية المعاصرة قد شُرع في مراجعتها، وذلك بنقض أسّ أركانها ألا وهو العقل، وحامل هذا الأس ألا وهو الإنسان. فماذا سيتبقى بعد ذلك لهذه الحضارة، مع العلم أنها لا تلقي بالا إلى جوهر الحضارة المتمثل في الدين والقيم والأخلاق!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] “الأزمة الحضارية في عالمنا المعاصر” للشيخ محمد صادق الإبراهيمي.
[2] كما سبقت الإشارة إليه في مقال سابق هذا المصطلح وضعه الدكتور منير العكش للتدليل على إبادة الهنود الحمر أسوة بإبادة الكنعانيين في فلسطين.
[3] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخل الله عليه الإسلام؛ إما بعز عزيز أو بذل ذليل .إما يعزهم فيجعلهم الله من أهل الإسلام فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له”.
[4] تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.قال الله تعالى:”هو الحي لا إله إلا هو”وقال سبحانه” وتوكل على الحي الذي لا يموت”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *