لقد قدّم المغرب الكثير من أجل أن يلملم أطرافه التي غرست فيها القوى الامبريالية جيوشها المبشرة بالنهضة والتطور قبل منتصف القرن التاسع عشر، قدّم موريطانيا للمصلحة الفرنسية فاستقالت كدولة منفصلة عن أصلها وهي دولة المغرب الكبرى، وقدّم الصحراء الشرقية غنيمة لقادة الجيش الجزائري حتى يلجم طمعهم في النيل من سيادته، وترك سبتة ومليلية وعددا من الجزر رهينة بين فكي الجشع الإسباني حتى تنسحب الجيوش الإسبانية من كل أراضي الصحراء الغربية..
ورغم كل ما قدّمه المغرب لا تريد، لا الجزائر ولا إسبانيا تركه لحاله ينعم بسيادته على ما تبقى له من أراضيه التي تمتد من فكيك إلى الرباط عرضا ومن طنجة إلى الكويرة طولا.
فحتى تضمن الجزائر عدم مطالبة المغرب بصحرائه الشرقية مرة أخرى، وحتى تنال شرف التقدم والحظوة بالقرار في دول المغرب العربي، خلقت جماعة من الانفصاليين الذين لا يراعون ولاء ولا ذمة لبلدهم المغرب ولا لسيادته، وأوتهم في أرض هي في الحقيقة أرض مغربية مغتصبة من طرف الجزائر، فصاروا يطالبون المغرب بالتخلي مرة أخرى على نصف جسده الجنوبي الذي يطلقون عليه اليوم الصحراء الغربية.
والأمر نفسه ينطبق على الجارة إسبانيا الحريصة على المحافظة على الصراع الدائر بين المغرب والعصابة المتطرفة، ما دام في ذلك خدمة لمصالحها، بل إن طرفا من ممثلي الرأي الدولي من يرى أن من حق تلك العصابة أن تنهب صحراء المغرب المتبقية حتى لا تقوم قائمته لا اقتصاديا ولا عسكريا ولا حتى اجتماعيا، خصوصا أنه الدولة المرشحة لسيادة إفريقيا..
إن ما حدث مؤخرا في مدينة العيون المغربية من أحداث شغب وتخريب وقتل وتدمير، من طرف خليط من أصحاب الفكر الانفصالي وعصابات البوليساريو وجزائريين ممن ثبت تورطهم في تلك الأحداث، إضافة إلى ما حظي به أولائك المخربون من دعم إعلامي وسياسي من منابر وأحزاب إسبانية وجزائرية، لا يدع مجالا للشك في أن كلا الدولتين -المغتصبتين لأراضي مغربية- حريصتين على استمرارية صراع المغرب مع أعداء وحدته الترابية، وذلك بتقديم كل أشكال الدعم، والعمل على تشويه سمعة المغرب في المحافل الدولية وعند الرأي العام العالمي ومن ضمنه إخوتنا العرب الذين يجهل أكثرهم الحقائق التاريخية للقضية، لذلك نجدهم في إعلامهم وفي خرائطهم يفصلون الصحراء عن المغرب..
هذا الصراع الذي يزداد حدة مع توالي الأيام تعمل القوى الغربية أيضا بكل مؤسساتها وآلياتها على استمراره، لأنه يخدم المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية للاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والكيان الصهيوني، وإلا فإن إطلالة على التاريخ القريب للمغرب توضح بجلاء أن المغرب كانت له سيادة على أراض تتجاوز المتنازع عليه الآن، وذلك موثق بالأدلة والوثائق والمعاهدات. لا يجحد ذلك وينكره إلا حاقد أو طامع أو جاهل.
لقد حرص الغرب بعد سحب جيوشه من البلدان الإسلامية التي استنزف خيراتها واستعبد أهلها عقودا من الزمن على خلق صراع بين شعوبها حول الحدود فرقت بين القلوب، وحالت دون جمع الكلمة..، وحرص أيضا على استغلال الخلافات المذهبية والعقدية والسياسية والاقتصادية لإشعال الفتن بين أفراد شعبها.. وليأخذ القارئ الكريم القلم وليحص دول العالم الإسلامي؛ وسيتضح له أن معظمها يشكو واحدا من هذه الأدواء الفتاكة هذا إن لم يشكو منها جميعا.
لقد شهد العالم أجمع مأساة رجال الأمن الذين راحوا ضحية العنف والإرهاب الذي مارسه عليهم الانفصاليون وأعداء الوحدة الترابية، تلك الفتنة التي انعدمت فيه حتى المتفق من الأخلاقيات الإنسانية، الأمر الذي دفع ببعض من كان على عينيه غشاوة إلى تصحيح وجهة نظره اتجاه عصابات الإرهاب والخطف والتعذيب والإجرام: عصابة البوليساريو، فشهدوا للمغرب بصحة موقفه؛ واتزان تصرفاته، لكن -وتحت ضغط إسباني- كان للبرلمان الأوروبي رأي آخر.
فرغم تصوير أحداث الشغب وتوثيقها، ورغم مصادقة المسؤول الأول لبعثة المينورسو على الرواية المغربية، وتكذيب “هيومن رايتس ووتش” لادعاءات الانفصاليين وإعلام أعداء الوحدة الترابية، اكتفى البرلمان الأوربي بإدانة الأحداث مع عدم تحميل أي طرف المسؤولية، ودعا الأمم المتحدة لتكوين لجنة تقصي الحقائق، وهو ما يساير دعاية البوليساريو.
فلو كان المغرب قد تحرك بحزم لفض المخيم (اكديم ايزيك)، وضرب سلطاته الأمنية بيد من حديد كل من سولت له نفسه إرهاب الآمنين والعبث بممتلكات الناس، لأدين من طرف البرلمان الأوربي وكل الهيآت الأمنية والحقوقية، ولكن ما دام أنه هو الضحية، وأن رجال أمنه هم القتلى والجرحى، فلا داعي لتحميل المسؤولية للانفصاليين لأنهم دائما يمثلون الطرف المظلوم عند الغرب، وهو ما يجعل الانفصاليين يخالفون كل القيم ويهضمون كل الحقوق من أجل مواجهة المغرب، وخير دليل على ذلك مخيمات الذل والعار التي يحتجزون فيها الصحراويين المغاربة الذين اختاروا عن طواعية الالتحاق ببلدهم والفرار بجلدهم.
يجب علينا في هذه المرحلة بالذات أن نقرر حقيقة مفادها أن كل المغاربة الأحرار يرفضون -بأي شكل من الأشكال- المس بأرضهم أو النيل من مقدساتهم وسيادة بلدهم، وقد أثبت ذلك التاريخ والواقع أيضا، وأرسل الشعب المغربي رسالة غير مشفرة إلى كل دولة عاودها الحنين إلى زمن الاحتلال أن الشعب سيقف وراء قيادته للذود عن حياض بلده ودينه وأمته.
نص الاتفاقية المغربية الجزائرية بشأن الحدود
6 يوليوز 1961م
إن حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، بدافع من مشاعر التضامن والأخوة المغربية، ووعيا منهما لمصيرهما الإفريقي، ورغبة منهما في تجسيد أماني شعبيهما المشتركة، فقد اتفقتا على ما يلي:
احتراما لروح مؤتمر طنجة المنعقد في شهر أبريل سنة 1958م، وارتباطا مطلقا بميثاق الدار البيضاء، فإن الحكومتين قررتا تشييد وحدة المغرب العربي، على أساس من التعاون الأخوي، وخاصة في الميدانين السياسي والاقتصادي. وتؤكد حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب مرة أخرى مساندتها المطلقة للشعب الجزائري في معركته لنيل استقلاله، ووحدته الوطنية، وتعلن تأييدها بدون تحفظ للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في مفاوضاتها مع فرنسا على أساس وحدة التراب الجزائري، وإن حكومة صاحب الجلالة تعارض بقوة كل محاولة لتقسيم أو اقتطاع أجزاء من التراب الجزائري.
والحكومة المؤقتة للحكومة الجزائرية، تعترف من جهتها أن مشكلة الأراضي التي أقرت فرنسا حدودها بصفة جائرة سيتوصل إلى حل بشأنها بواسطة المفاوضات بين حكومة المملكة المغربية وحكومة الجزائر، عندما تحصل الجزائر على استقلالها.
ولهذا الغرض فإن الحكومتين قررتا أنشاء لجنة مغربية جزائرية تجتمع في القريب العاجل لدراسة هذا المشكل، وإيجاد حل له، وذلك بروح الأخوة والوحدة المغربية. ولهذا تؤكد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من جديد أن أي اتفاقيات يمكن أن تبرم عقب مفاوضات فرنسا والجزائر يجب أن لا تتعارض مع مصالح المغرب فيما يتعلق بتحديد الأراضي المغربية الجزائرية.
الحسن الثاني/ فرحات عباس
(انبعاث أمة، الجزء الثامن: 1963م، ص:287-288، مطبوعات القصر الملكي).