لقد اجتهد الشيعة المغاربة كثيرا في البحث عن أرضية لتمرير المشروع الإيراني الفارسي (التشيع الصفوي) إلى المغرب، مستغلين بعض المعطيات الدينية والتاريخية من قبيل حب المغاربة الفطري وولاءهم الديني لآل البيت، وما أبدوه من تعاطف اتجاه دولة الأدارسة في بداية نشأتها.
وكلها معطيات لم تسعف هؤلاء الشيعة الجدد، فحب المغاربة لأهل البيت لا يعني -عندهم- الطعن في القرآن الكريم، ولا اتهام سيد المرسلين، ولا تكفير الصحابة الميامين، ولا التنقيص من أمهات المؤمنين.
كما أن المولى إدريس وإن كان علويا خارجا عن سلطة العباسيين، فليس ذلك دليلا كافيا لإلصاق التشيع الفارسي به كما يؤكد بعض الباحثين.
ينضاف إلى ذلك تاريخ الدولة التي أنشأها بالمغرب وما قامت به من أعمال تمثل التشيع الأول الذي لا يعدو كونه موقفا سياسيا يطالب بأحقية آل البيت في الخلافة دون طعن فيمن سبقهم ولا تكفير لمن لحقهم، مما لا يمت للتشيع الفارسي بصلة، الشيء الذي جعله ودولته في مقابل معارضة شرسة من طرف الدولة العبيدية.
هذه الدولة التي يمكن اعتبارها أول ظهور حقيقي للتشيع في المغرب.
التشيع الذي يريد الشيعة الجدد إحياءه بالمغرب من خلال المطالبة المستمرة بإعادة قراءة التاريخ الديني للمغرب حتى يرجع لأصله الشيعي المزعوم.
فما نوع التشيع المتبع عند الشيعة العبيديين (الفاطميين)؟
يقول الدكتور محمد طه الحاجري: «في ذلك الوقت الذي دخل فيه التشيع إلى المغرب العربي، -أي في عهد الفاطميين- كان هذا المذهب قد تحول تحولا ظاهرا كبير الخطر، فلم يعد كما كان الشأن فيه في مبدأ أمره مجرد دعوة لأبناء علي وفاطمة، أو ثورة على الأمويين إذ غصبوهم حقهم، واستلبوا ما كان ينبغي فيما يرون أن يكون لهم، ثم تعقبوهم وجعلوا ينكلون بهم، فإن اتجاه التشيع إلى المشرق، واتخاذه من بلاد الفرس موطنا له، كل ذلك انحرف به عن نصابه الأول، وتحول به عن صورته الأولى، إذ أسبغ عليه ألوانا جديدة مشتقة من العقلية الفارسية بمواريثها المختلفة، وخلط ما بينه وبين هذه العقلية وصور إدراكها للإسلام» .
هذه هي الصبغة الباطنية التي صبغت بها القومية الفارسية التشيع، وهي التي تشكل فارقا كبيرا بين ما كان عليه التشيع زمن المولى إدريس وبين ما أصبح عليه وقت العبيديين.
وبخصوص هذه النقطة يوضح الدكتور الحاجري، قائلا: «وذلك هو التشيع الذي دخل المغرب العربي في أواخر القرن الثالث، ومن قبل دخل التشيع هذه البلاد مع إدريس بن عبد الله في أواخر القرن الثاني، ولكن ما أبعد ما بين التشيع الجديد والتشيع القديم: التشيع الفارسي والتشيع العربي… فدولة الأدارسة لم تكد تفرض مذهبا معينا، أو أن ما فرضته من ذلك إنما كان في حدود ضيقة …قبل أن يصطبغ التشيع بتلك الصبغة الباطنية، ويرتبط بالقومية الفارسية».
إشارة إذا أضفنا إليها ما ذكره بعض المؤرخين من كون القضاء في دولة المولى إدريس كان على المذهب المالكي، وكذا تربص العبيديون بها حتى إسقاطها، فإنها كافية لتبرئة دولة الأدارسة من الصبغة الباطنية الفارسية.
الصبغة التي ظهرت مع العبيديين، وتمظهرت في جميع المجالات التي طالتها أياديهم، في شكل معتقدات خبيثة، وسلوكيات منحرفة، وعداوة ظاهرة لدين المغاربة ومقدساتهم وثوابتهم.
يذكر المؤرخ ابن عذارى: «أن عبيد الله الشيعي المهدي عندما دخل إفريقيا “يعني تونس” أظهر التشيع القبيح وسب أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأزواجه؛ حاشا علي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبا ذر الغفار، وزعم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا بعده غير هؤلاء الذين سميناهم» .
فتكفير الصحابة من العقائد التي غرسها اليهودي عبد الله بن سبأ في دين الشيعة وطورها الفرس، الذين جعلوها أولى مرتكزات دينهم، وأرادوا تمريرها إلى المغرب عبر دعاة الدولة العبيدية.
ففي الروضة من الكافي للكليني: «… روى عن أبي جعفر عليه السلام قال: “كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي رحمة الله وبركاته عليهم» .
انطلاقا من مضغة الحقد الدفينة في قلوب العبيديين على الإسلام والمسلمين، تلقفوا هذه العقيدة بقوة فراحوا يرددون الطعن في الصحابة الميامين وصاحبهم الأمين.
يقول القاضي عياض: «كان أهل السنة في القيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة من الاهتضام والتستر كأنهم أهل ذمة، تجري عليهم في كثير من الأيام محن شديدة، ولما أظهر بنو عبيد أمرهم ونصبوا حسينا الأعمى السباب -لعنه الله تعالى- في الأسواق للسب بإسجاع لُقّنها يتوصل منها إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم في ألفاظ حفظها (منها قوله -لعنه الله-: ألعنوا الغار وما وعى، والكساء وما حوى). وعلقت رؤوس الأكباش والحمر على أبواب الحوانيت، عليها قراطيس معلقة مكتوب عليها أسماء الصحابة، اشتد الأمر على أهل السنة فمن تكلم أو تحرك قُتل ومُثل به» .
حقد دفع العبيدين الشيعة بعد الطعن في صاحب البيت قبل أهله وأصحابه، إلى إبطال بعض السنن المتواترة والمشهورة، والزيادة في بعضها، كما فعلوا في زيادة “حي على خير العمل” في الآذان، وإسقاط صلاة التراويح، وفرض مذهبهم بالقوة حتى ترك أكثر المغاربة الصلاة في المساجد.
ومنعوا الإفتاء بمذهب مالك، وتعلم أصول الشريعة على عقيدة أهل السنة والجماعة، وحبسوا شيوخ القيروان عن إلقاء الدروس والمواعظ، واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن وحتى القتل أحياناً.
وهذه سنة الشيعة الروافض أينما حلوا وارتحلوا إلا وذلوا أهل تلك البلاد وساموهم سوء العذاب، ونكلوا بعلمائهم، وصيروهم عبيدا لهم.
هذه بعض الجوانب التي تجلت فيها الصبغة الفارسية في التشيع العبيدي، الذي جاء الشيعة الجدد لإحيائه والدعوة إليه مجددا بالمغرب السني، والحلم باسترجاع أمجاد دولته الباطنية.
فهل سينجح هؤلاء المتشيعون الجدد؟
أم أن مصيرهم من نفس مصير أجدادهم؟