العلمانيون والحَجْر على اللاعلمانيين يونس الناصري

في عصيدة أخرى من عصائده، انتقد العلماني أحمد عصيد بشدة وتطرف غالي مواقف بعض المدرسين في مقال له سماه: “المدارس المغربية مليئة بالفضائح التربوية”، ادعى فيه أن مدارسنا المغربية “تنتهك يوميا مبادئ التعليم العصري وقواعد البيداغوجيا، من قِبَلِ بعض المدرسين والمدرسات الذين لم يحظوا بما يكفي من التكوين، يسمح لهم بإدراك فداحة ما يأتونه من سلوكات ماسة بكرامة التلاميذ ومبادئ المهنة التي يمارسونها”.
وقد نصب نفسه في هذه المقدمة حاكما على من علموه وسعوا إلى تهذيب أخلاقه ولسانه، لكنه لم يتأدب للأسف بما لُقِّن وعُلمَ من أخلاق فاضلة، على رأسها تعظيم أهل العلم والتربية وتوقيرهم، فقد حفظ بلا شك بيت شوقي المشهور:
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت — فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لقد بدا عليه الزهو بالنفس والإعجاب بالرأي، لكونه الوحيد الذي ألم بمبادئ التعليم العصري، وقواعد البيداغوجيا، والفريد الذي حظي بما فاق الكفاية من التكوين؛ لذلك كانت إنتاجاته وآراؤه لا تمس بكرامة عموم المغاربة، وتمثل عصارة الفكر العقلاني الجاد، الذي ينفع العباد والبلاد.
ولا داعي هنا لتتبع عثرات عصيد وزلات لسانه وسقطات قلمه ورداءة آرائه وشذوذها، فذلك مما يطول في هذا المقام، وإنما حسبنا الوقوف على بعض ما زعم به أنه خرق لمبادئ التعليم العصري وقواعد البيداغوجيا.
إن من يسمع هذا التهويل الفضفاض في عبارة “انتهاك مبادئ التعليم العصري وقواعد البيداغوجيا” يظن أن هؤلاء المدرسين المقصودين يجمعون تلاميذهم في زنازين أرضية بلا نوافذ، يفترشون الحُصُر أو التراب، ويلقَّنون الألفية وابن عاشر وتصوف الجنيد، وشيئا من فقه مالك، وغير ذلك من علوم الأوائل، وأنهم يمارسون على أبناء المغاربة أقسى أنواع التعذيب؛ بالحفظ والاستظهار والتعنيف المادي والمعنوي، كأنهم خارج المنظومة التربوية، لا رقيب ولا حسيب، لا مدير ولا مفتش، حتى لا ضمير لهؤلاء المدرسين الأشرار، الذين ينتهكون باستمرار “مبادئ التعليم العصري وقواعد البيداغوجيا”، فحق لكل من يقرأ هذه المقدمة السفسطائية أن يلعن هؤلاء المدرسين، ويصب عليهم وابل الشتائم.
بيد أن باقي المقال يفسر لنا مقصوده بانتهاك مبادئ التعليم العصري وقواعد البيداغوجيا، وذلك حينما استدل بأنشطة بعض الأساتذة، الداخلة في نطاق اجتهاداتهم التي لا يحق لأي كان أن يتحكم فيها أو ينتقدها أو يتسلط على صاحبها بما يراه هو مخالفا لها، مما يظن من فكر ومرجعية خاصة.
وأول هؤلاء المخالفين لمبادئ التعليم العصري وقواعد البيداغوجبا أستاذٌ كلف تلاميذه بالبحث النصي في القرآن الكريم عن بعض المفردات العربية في أي سور ذُكرت؛ وللقراء المنصفين أن يحكموا.
وطبيعي أن يتخذ هذا الموقف الشاذ من لم يقرأ كتب السلف في علاقة اللغة بالقرآن الكريم؛ الذي هو مصدر إلهام علماء اللغة فيما أبدعوا من فنون لغوية أدهشت الباحثين الغربيين، ولم يوقرها بعض أبناء المسلمين.
والثاني عرض شريطا على تلامذته “أُنتج في بعض القنوات الدينية الوهابية ببلدان الخليج” مفاده تحذير التلاميذ من التهاون في الصلاة المفروضة في وقتها، ليعلق عصيد على الفعل بقوله: “هذا الشريط يعرض داخل مدارس مغربية لتلاميذ يبعث بهم آباؤهم للتعلم، وإذا بهم يجدون أنفسهم أمام مدرسين ساديين، لا يحسنون إلا ترويج ثقافة الموت والرعب، يروجون لبضاعة لا صلة لها مطلقا بالتربية ولا بعلومها، فالأسلوب الوحشي الذي أنتج به الشريط لا يمكن أن يكون صادرا إلا عن عقلية بدوية لبعض الأجلاف من الأعراب الذين لا صلة لهم بالتمدن من قريب أو بعيد، والمشكل أن هذا الإنتاج في غاية الرداءة يروج داخل مدارسنا دون علم وزارة التربية الوطنية ودون علم كثير من الآباء..”.
وليتأمل القارئ خلاصة الفكر المتحجر، الذي يدعي أصحابه أنهم عقلانيون منفتحون يتقبلون الرأي والرأي المخالف، وغايةَ السطحية في انتقاد المخالف، وبشاعةَ التدخل في شؤون أناس وظفتهم الدولة وأنفقت عليهم في تكويناتهم، وقبلت بهم لجدارتهم وكفاءتهم بأن يكونوا معلمين يدرسون أبناء المسلمين ما ينفعهم في دنياهم ودينهم.
إن الانتقاد العميق لهذا السخف من الكلام يتطلب صفحات عدة؛ لذلك يكفينا بعض التنبيهات الضرورية من مثل:
الأول: طعنه الصريح في حديث صحيح رواه البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما، ذكره النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه ولأمته ليُقرأ ويُحفظ ويُعمل به، وما الشريط إلا تقنية حديثة قام بها بعض الشباب المسلم جزاهم الله خيرا وأكثر من أمثالهم؛ لتحذير إخوانهم المسلمين من التهاون في الصلاة المفروضة على وقتها، وإن كان المدرس -وهذا ما سيكون بلا شك- أستاذ إسلاميات، فلا يحق لمسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا أن ينتقده في اختياره؛ لأن ذلك من صميم ديننا الحنيف أحب من أحب وكره من كره -وهو دين الدولة الرسمي كما نص عليه الدستور- ومن صميم مقرره الدراسي أو اجتهاده الداخل في مادة التربية الإسلامية. لكن الذي اتهم رسائل الرسول إلى ملوك عصره بأنها دعوة إلى الإرهاب ولا يجب أن تدرس في عصرنا الحديث كيف سيقول خيرا؟؟؟
الثاني: تكلمه بلسان الآباء والأمهات كذبا وزورا؛ فإنه لم يستطلع آراء أولياء التلاميذ في مثل هذه الاجتهادات النابعة من إسلامنا الذي هو في قلوبنا، ولو فعل لعاد بما يسقم قلبه ويحرق دمه؛ إذ إنه يعلم ما يكنه المغاربة لدينهم من ود وتقدير، حتى وإن كانوا متهاونين في كثير من مبادئه، ولقد تبين مرارا فشله الذريع في مثل هاته التحريضات البائسة التي لا يلتفت إليها إلا كل علماني متحجر متبلد.
الثالث: قوله إن تلك المقاطع المصورة تعرض في مدارس مغربية، كأن المغرب ليس بلدا مسلما أبا عن جد، وكأن منظومته التربوية لا تغترف من الدين الإسلامي، وليس من غاياتها التربية على القيم والمبادئ الإسلامية، التي تتجلى في عقيدته الصافية، وأخلاقه الحميدة، ومعاملاته الراقية، الداعية إلى السلم ومحبة الخير للإنسانية. إن هؤلاء العلمانيين يتمنون علمنة الشعب جميعه حتى يرضوا، ولن يكون لهم ذلك إلا في عميق أحلامهم ولذيذ نومهم.
الرابع: اتهامه للمدرسين بالسادية وترويج ثقافة الموت والرعب، وهو نفس الاتهام الذي وجه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بخصوص دعواته المرسلة لقيصر وكسرى والنجاشي وغيرهم ممن كان في عهده، فلا يحزن الأساتذة الذين يسيرون على نهج رسولهم في دعوة الناس بالتي هي أحسن إلى دينهم العظيم بطرائق حديثة.
وهنا يجب أن يخجل عصيد من نفسه، ويتخلى عن تستره بالحرية والديمقراطية والتسامح وغيرها من الشعارات الرنانة، التي يثبت دائما هو وغيره نسفهم لها ومخالفتهم إياها، ولو عرض أستاذ نصراني قصة صلب المسيح المكذوبة على التلاميذ، لهلل عصيد وتشدق بالقول: هي حرية معتقد، ومن حق المسيحيين الدعوة إلى عقيدتهم، ففيها دلالات إنسانية بالغة الأهمية كالفداء والإيثار وحب الخير للناس وهلم جرا.
الخامسة: وصفه كيفية تصوير الحديث النبوي الشريف والشخصيات التي مثلته بالوحشية، الصادرة عن عقلية بدوية لبعض الأجلاف من الأعراب الذين لا صلة لهم بالتمدن من قريب أو بعيد.
ولا أدري أصاحب هذا الكلام عاقل أم به جنة، أم هو في غيبوبة علمانية ولم يستفق بعدُ من ضلاله القديم؟
ألا يعلم أنه يتهم الرسول العربي الكريم بهذا الخُرق والتطاول السافل الحقير؟
ألا يخشى أخذة الجبار المتكبر في أي لحظة بهذا السب الغبي لأفضل الخلق أجمعين؟
أو لا يعلم أن هؤلاء الموصوفين ببذاءته هم من سلالة الرسول العظيم ؟
ثم ألا يفهم أن التمدن بلا دين لا ينفع صاحبه طرفة عين يوم القيامة وإن ملك الدنيا بحذافيرها؟
ثم عن أي تمدن يتحدث هذا العلماني؟
ألم ينشئ المسلمون أعظم المظاهر المدنية في العالم بأسره أيام أن طبقوا شرعهم في حياتهم؟
ألم يقرأ هذا الكائن عن حضارات الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولو عند المستشرقين المنصفين؟
وهل التمدن يتجلى في انتقاص الإسلام ورسوله يا صاحب العقل الأرسطي المزور؟
أوليست أرقى الحضارات الآن تعتز بيسوع وتسعى إلى نشر المسيحية في أرجاء الأرض؟
وأسئلة أخرى كثيرة لن يجد لها العلمانيون إلا كبرا وغطرسة.
هذا وفي مقاله من الحمق والسفه الشيء الكثير، واللبيب تكفيه الإشارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *