نفسي تُحدّثُني عن الله عبد الرحمن علوش

 

حسنا، لقد غالبتني نفسي هذه المرة وأسقطتني في شرازم الآدمية: تلك التي هي من تراب، وقد هويت بأنفاسي غارقًا في طين أهوائي.

أجل، لم تكن المرة الأولى التي أقع فيها عدديًا؛ ولأن النفس البشرية بمعاني إيمانها لا تعرف الكم و الأعداد، فهذه هي المرة الأولى مُذ سحبت خطاً جديداً في صحيفة إيماني..

أبكي عجزي عن صبري لأجل الله: الصبر الذي يتمناه قلبي رادعًا لكل ما يبقيني بعيدا عن الله، أحب الله قربي في جميع الأوقات، لا أشعر بالنسيمِ في قلبي إلا وأنا أذكره، أذكره وأنا أناجيه: يا رب لا أُحب أن أعصيك فأهِّلني إليك.

لا أعرف ما يُصيبني حين أعصيه، ربما لست أنا أو على الأقل ليس هذا طوْري في شيء إنما هو منسلخٌ فيّ عن طبيعتي لبضع هذه الدقائق، فضبابية الرؤية وقتها تعميني عن فهم ذاتي؛ لأنها لم تكن هي ذاتي بالأساس.

لم اقتنع يومًا بمعصيته وأن هذا ما يجب أن يحدث، وحين أذكر أن الله لا يستحق مني ذلك أشفق على حالي وحقيقة فنائي أنني هو ذاك الذي لا يستحق أن يُمرمِغَ ثوانيه في الخطيئةِ وهو يعرفُ عن الله، فمن أنا لأضع ربَّ هذه الأكوانِ في دائرةِ الاستحقاق؟!!!

كوني خلقُ اللهِ أُشفِق على حالي إنْ تجرأتُ على معصيتِه، وكوني خلقه أيضًا أستحقّ شموليةَ رحمتِه ما دُمتُ لا أرتضي المعصية، كيف لفعلٍ عادي ضمن نوازع الحياةِ المادية المستغرقةِ في الفتن أن تكونَ جبلاً يكاد يخنقني لولا تخفيف الله؟!! وتلك هي الموازنة الجميلة، كلُ الأشياءِ داخلي تؤمِن بالله، إذن فقد ارتضيته ربًّا، فعليه لا أملكُ مِن نفسي شيئًا إلا به؛ ولأجل كلِّ هذا فخشيته هي لِباسُ النفس البشرية من المعاني الحارسة إزاء عُرىٰ الدنيا من الفتن والأهواءِ والشهوات: لباسُ التقوىٰ ذلك خير.

إنما هو إطارُ محبةٍ تهتزُّ في حولِه جميعُ أشجاني وما يُخبّئه صدري: هذا ما أشعر به عندما أخشاه، في خشيتي منه ما غمرني يومًا إلا المحبّة، لا أذكر أنّي بكيتُ يومًا من الأيامِ سوى للّه، هكذا تُخبّرني حداثةُ فطرتي على طولِ أيامِ عمري، أنّما في خشيته رضىً: وهو ما لأجله قامت السمٰواتُ والأرض حين تنتهي لائحة أشخاصٍ فازوا على الدنيا بخاتمةِ السعادةِ مكتوبٌ فيها: “رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربّه“.

حين عصيته وجأرتُ إليه بكلِّ أعماقي شعرتُ به؛ لأنني شعرتُ بالرّاحة تسري في كلّ جسدي ذرةً دون الأخرى وكأنّ لكلِ واحدةٍ منها كيانًا من السلام المنشوءِ فيها يوم أن خُلِقت تُحارب به عِصيان ربّها فترتاحُ لطاعته، فُيدركني البردُ ثلجًا يجوب مسامع صدري، وهذا هو التصعيد لحظة ما صعد أمرُ حالي إلى ربّي، ولا أعلم كم تبعدُ أرضي هذه عن تلك السماءِ قُبيل عرشِ الرحمٰن، ولكنّي لا أعلمُ شيئًا أقرب إليّ منها، فقد أدركت حينها غايةَ اللّٰهِ من القربِ حين قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].

وساعتها علمتُ بأننا لسنا في معيّةِ اللّٰهِ بل نحنُ معيّةُ اللّٰهِ، فإن أدركناها بقدرِ إيمانِ قلوبِنا كُنّا في معيّةِ اللّٰهِ.

الأمرُ أشبه بالروحِ بدت مُستلقيةً بعد أن انقشع عنها غبارُ الدنيا لا أن تنظرَ إلى ربّها -فتلك في الجنةِ- بل أن تَتَلقّى من ربّها، لا أعرف تشبيهًا أدق من هذا ولكنّه خبرُ السماء من ربّ السماءِ على قلبِ عبدٍ ضعيفٍ أسفل تلك السماءِ.

وها أنا ذا بعد كلّ هذا قد نظرتُ جوار هدنةِ قلبي إلى بعضٍ من آثارِ رحمةِ اللّهِ بي وبحالي، وأحسستُ معها صفاءًا قانعًا بأنني لا أعتبُ على جِبلّتي إن أخطأت عَرَضًا بل ألومُ على قلبي إن سَقطَ راضيًا.

القرآن يخبرّني بأنّي أدعوه “خوفًا وطمعًا”، وأن مَنْ “يبتغون إلى ربهم الوسيلة يرجون رحمته” “ويخافون عذابه” كذلك، وقد عرفتُ من قبل في يومِ خلوةٍ أن الرحمةَ تتنزل لحظاتٍ رغم أنها في كلّ وقت ولكنّ المُعاش فيها ثواني والمُحسّ منها لحظاتٍ يُنعِمُ فيها المولىٰ الكريم على روحِ العبدِ الكسيرِ منّا فينظر آثارها ويعرف شعورِها، ولذا كان التخفيفُ على عِظم مظانِ إجرامِ العبدِ في حق ربّه رحمةٌ من الله نرجوها؛ لأننا ضعفاء وقاصرون على أن نُعطيَ ولو قليلِ حقٍ ممّن في حقّه تأبيد التعلّقِ به.

وأخيرًا فقد حدّثتني نوازعُ الحقّ في نفسي عن تلك الموازنةِ الجميلة من خشيته وتخفيفه، وبكليهما تخطو النفس المؤمنة صراط الله المستقيم وبأُنسِهما تصعد معراجَ ربّها، فإن طبيعتنا البشرية وحقيقتها من المعاني الحارسة تلاقت بالتوافق مع خشيةِ الله التي تحرسها من غرورِ التخفيف، ومع تخفيف الله الذي يحرسها من نزيفِ الخشية، وهكذا استقرّت نفسي واستكانت لها طباعُها من الحق.

فاللهم يا ربّ المعاني وحارسها، يا أهل التقوى وأهل المغفرة أعد ترتيبَ مؤن قلبي من زينة الإيمانِ بك وحسن العملِ لك ما يجرّني إليك وحدي وقلبي أفواجًا ناطقةً بطاعتِك وظاهرةً وداعيةً إليك بفضلك ونعمتك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *