من مهمات فقه التغيير أن حصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته رشيد مومن الإدريسي

أهل السنة والحديث يلتمسون (فقه التغيير) من العلم الصحيح المتمثل في الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح الكرام، والتتبع والاستقراء لنهج الأنبياء عليهم السلام فإن “العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه”1.

فالتغيير المحمود ما عظَّم الأصول، وحصَل الاجتهاد وفق ذلك في الفروع، وحقَّق الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد المرضية.
فإذا كان الأمر كذلك فاستبشر بالجهود الأثرية لأهل السنة السنية، فإن أعمالهم عند ذلك طريق ثابت الأسس والقواعد، واضح المعالم والمسالك، يجمع ولا يفرق، ومن تنكبه فغالبا ما يزداد الخبال والشتات.
ومن ثم فإذا فقد التغيير صحة الغايات صار (عبثا مقاصديا)!! وإذا خلا من شرعية الوسائل صار (خللا منهجيا)!!!
وعليه فما أحوجنا إلى ضبط مسالك التغيير عند أهل السنة حتى لا نُفسد التصورات، ونُضيع القواعد والتأصيلات، وحتى لا يختل ميزان فقه الأولويات(!!) استرواحا بحسن المقاصد -وإن تحققت- مع عدم شرعية الوسائل، فإن صحة النتائج لا يلزم منه -دائما- سداد المقدمات، وهذه ما يعقلها إلا العالمون.
وأستحضر في هذا المقام ما ذكره ابن قتيبة الإمام رحمه الله حيث قال: “قد كنا زمانا نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن إلى الاعتذار من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير الزمان، وفي الله خلف وهو المستعان”2.
فالتغيير عند أرباب النظر الحصيف أقسام أولها: (التغيير الشرعي)، وثانيها: (التغيير التفضلي)، وثالثها: (التغيير الكوني) والمراد منا السعي إلى تحقيقه شرعا الأول وهو: التغيير الذي يحبه الله للناس، بالطريقة التي يرضاها سبحانه لهم، وهو الذي يأتي بثماره المعتبرة شرعا ولو بعد حين، وإلا فالتغيير قد يقع تفضلا على وجه العرض لحكمة يعلمها سبحانه، أو يقع كَوْنا لكنه لا يكون محمودا شَرْعا، لمخالفته الشرع، إما في مقدماته، أو في نتائجه ومآلاته فتذكر هذا ولا تغفل عن الضوابط السنيات فَتُمْنَعَ الصلة والبركات(!)
فلا يجوز إذن اعتقاد مشروعية طريق من الطرق لمجرد أنه محقق للمقصود الشرعي، بل الجواز متوقف على إذن الشارع “فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الرسول لأمته فهو الداعي إلى الله بإذنه الهادي إلى صراطه الذي من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي”3.
ومن أدلة هذا ما ورد في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: “ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له”4.
ووجه الدلالة من الحديث: أن إدخال السرور على المسلم أمر محمود شرعا، ولا يعني هذا جواز الكذب من أجله، بل يُدخل السرور عليه بطريق مأذون به شرعا.
وفي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قوله -هو الشاهد-: “..نهانا رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا..”5.
ووجه الاستدلال منه: أن الأمر وإن كان يحقق مصلحة فلا يصح إطلاق جواز الوسيلة إليه دون النظر إلى مشروعيتها في ذاتها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود مما يدل على أنه سائغ في الشريعة، فإن كثيرا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم، وبعض الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك ويدعو التماثيل التي في الكنائس ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم .
فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحا فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها كما أن كثيرا من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع.
فهذا أصل يجب اعتباره ولا يجوز أن يكون الشيء واجبا أو مستحبا إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه”6.
فالحذر الحذر من عدم التحقق من مشروعية الوسائل حيث يعمل بها استرواحا بحصول النتائج الشرعية فإنما يهزل أرباب الدعوة ويضعف حالهم إذا كانت الوسائل البدعية هي السائدة بينهم، لأن هذه الوسائل لا تُخرج إلا منحرف المعتقد، ضعيف الإيمان، متلطخا بأوضار البدع.
واعلم أن الوسائل البدعية إنما يصار إليها عند ضعف التمسك بآثار النبوة، فإنه “كلما ضعف تمسك الأمم بعُود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك”7، وإذا تعلقت القلوب بهذه البدع فإنها تحجب عن السنن، بحيث لا ترى فيها ما تراه في تلك المحدثات، ومن ثم تزهد فيها، وترغب عنها8.
فـ”من رحمة الله تعالى بعباده، وبالغ حكمته في تشريعه لما يصلح الله به العباد والبلاد، أنه سبحانه لما شرع الجهاد، وشرع الدفاع، وشرع الأمر بالمعروف، وشرع تغيير المنكر، وشرع النصيحة، وشرع الدعوة: شرع للأمة وسائل متعددة في ذلك، ولم يجعلها إلى عقولهم، بل أحالهم على ما شرعه لهم..”9.
والغريب أن يُلوح البعض في هذا الميدان بقاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد)10 دون إحكام ماهيتها أو بغفلة عن حقيقتها فتقع الهرولة في غير المسعى ويظن المرء أنه يحسن صنعا(!!)
ولذا فاعلم أو تذكر رحمك الله “أن الوسائل بالنسبة للمقاصد الحسنة، لا بد أن تكون مشروعة -واجبة أو مندوبة أو مباحة وجائزة- أما أنها تكون مبتدعة أو محرمة فلا”11.
وهذا التصور لمجال هذه القاعدة مهم اعتباره حتى لا نقع في المبدأ الميكيافيلي وهو (الغاية تبرر الوسيلة)12.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله عند هذا المبدأ: “هذا على إطلاقه تقعيد فاسد، لما فيه من العموم في الغايات والوسائل، فالغاية الفاسدة لا يوصل إليها بالوسيلة ولو كانت شرعية، والغاية الشرعية لا يوصل إليها بالوسيلة الفاسدة، فلا يوصل إلى طاعة الله بمعصيته.
نعم: الغاية الشرعية تؤيد الوسيلة الشرعية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
مع أن لفظ : (تبرر) هنا غير فصيح في اللسان. والله أعلم”13.
فالواجب -يا رعاكم الله- الحرص على سلوك طريق السداد والأخذ بالوسائل التي شُرعت للعباد بغض النظر عن تحقق النتائج وحصول المقاصد، فهذا هو النظر الأثري والمسلك القرآني قال تعالى: (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب)، وقال سبحانه: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).
ـــــــــــــــــــــــــــــ

1. مفتاح دار السعادة 1/82.
2. مقدمة كتاب إصلاح غلط أبي عبيد 46-47.
3. مجموع الفتاوي لابن تيمية 11/586.
4. أخرجه الترمذي رقم:2315، وحسنه الألباني رحمه الله في غاية المرام رقم:376.
5. رواه مسلم.
6. مجموع الفتاوي 1/264-265.
7. إغاثة اللهفان لابن القيم رحمه الله 1/200.
8. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض عن غيره. بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له، ومنفعته به، ويتم دينه، ويكمل إسلامه” الاقتضاء 1/483.
9. حكم الانتماء للشيخ بكر أبي زيد رحمه الله 157.
10. هذه القاعدة بعمومها ليست مطردة فقد تكون الوسيلة محرمة أو مكروهة، وما جعلت وسيلة إليه ليس كذلك. انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/116.
11. الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية 89 بتصرف.
12. هناك فروق دقيقة بين هذا المبدأ الميكيافيلي وقاعدة (فتح الذرائع) من لم يتصورها لا يجوز له الخوض في الأمور العلمية التي لها تعلق بهذا الباب، والله المستعان. انظر كتاب: فتح الذرائع وأثره في الفقه الإسلامي، ص:63 فما بعدها.
13. معجم المناهي اللفظية 403.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *