ثانيا: الرياح المرسلة بالنقم
– إن الله جل وعلا كما يرسل الرياح بالنعم لمن كان لها أهلا كما سلف القول، فإنه يُرسلها بالنقم ليعذبوا يهلك بها من حق عليه العذاب والهلاك من الطغاة والظالمين.
وقد سلطها الملك الجبار سبحانه على كثير من الأمم السابقة ممن ظلموا وعتوا وتكبروا على الله وأنبيائه ورسله؛ فعذبهم وأهلكهم بها، كما أخبر جل وعلا عن قوم عاد: “فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين” (الأحقاف 24ـ25).
– وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُرى الخوف فيوجهه إذا رأى غيما أو ريحا. ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “ما رأيتُ رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم -قالت- وكان إذا رأى غيما أو ريحا عُرف ذلك فيوجهه، فقالت: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ فيوجهك الكراهية؟! قالت: فقال: “يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذابٌ، فقد عُذب قوم بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا”1.
– وتلك الرياح التي يرسلها الله تعالى بالعذاب والنقم، أنواع مختلفة باختلاف أصناف العذاب التي تحملها، ومنها:
– ريحٌ فيها صرّ:
الصر هو البرد الشديد، فهي ريح فيها برودة شديدة مُحرقة، تُهلك الزرع. قال تعالى: “كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون” (آل عمران117).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: “كمثل ريح فيها صر” أي: برد شديد، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم. وقال عطاء: برد وجليد، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد: “فيها صر” أي: نار، وهو يرجع إلى الأول أن البرد الشديد ولاسيما الجليد يُحرق الزروع والثمار كما يُحرق الشيء بالنار…”2
– ريحٌ عاصفٌ:
وهي ريح شديدة الهبوب تدمر وتُحطم كل شيء في طريقها وإذا أصابت البحر حركته بقوة فاضطرب بعد سكونه وعلت أمواجه.. قال الله تعالى: “وهو الذي يُسيَرُكُم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها؛ جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموجُ من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم؛ دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين” (يونس22).
– ريحٌ قاصفٌ:
القاصف؛ ما يقصف الشيء، أي: يكسره. والريح القاصف هي الريح الشديدة التي تكسر بشدة. من: قصف الشيء؛ أي: كسره بشدة.3
قال الله تعالى: “أم أمنتم أن يُعيدكم فيه تارة أخرى فيُرسل عليكم قاصفا من الريح فيُغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا” (الإسراء69).
هذه الآية الكريمة وردت في سياق مخاطبة الكفار الجاحدين لفضل الله، الذين اعترفوا بتوحيد الله لما مسهم الضر في البحر وتضرعوا إليه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا، فقال لهم جل وعلا: “أم أمنتم أن يُعيدكم فيه تارة أخرى”، أي: في البحر مرة ثانية، “فيُرسل عليكم قاصفا من الريح”.
قال ابن كثير: أي يقصف الصواري ويُغرق المراكب. قال ابن عباس وغيرُه: القاصف: ريح تكسر المراكب وتُغرقها…”4
– ريحٌ صرصرٌ:
وهي الريح الباردة العاصفة مع الصوت الشديد.5 وقد أهلك الله تعالى بهذه الريح المستكبرين في الأرض بغير حق، كقوم عاد. قال جل وعلا: “وأما عاد فأُهلكوا بريح صرصر عاتية” (الحاقة 6)، وقال: “إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر” (القمر19)، وقال: “فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم
قوة، وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، وهم لا يُنصرون” (فصلت15 ـ 16).
يقول ابن كثير رحمه الله، في بيان معنى الريح الصرصر: قال بعضهم: هي شديدة الهبوب، وقيل: الباردة، وقيل: هي التي لها صوت. والحق أنها متصفة بجميع ذلك، فإنها كانت ريحا شديدة قوية لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جدا كقوله تعالى: “بريح صرصر عاتية”، أي: باردة شديدة، وكانت ذات صوت مزعج، ومنه سُمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصرا لقوة صوت جريه…”6.
وقد صور لنا القرآن الكريم مشهد هلاك قوم عاد بهذه الريح، فقال سبحانه: “تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر” (القمر20). قال ابن كثير: وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تُغيبُهُ عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى الأرض فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس”7.
وقال تعالى: “فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية “(الحاقة7).
قال ابن كثير: جعلت الريح تضربُ بأحدهم الأرض فيخر ميتا على أم رأسه فيُشدخ رأسُه، وتبقى جثة هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرجت بلا أغصان”8.
ــــــــــــــــــــــ
1 ــ صحيح مسلم، رقم الحديث899/16.
2 ــ تفسير القرآن العظيم ج2 ص63.
3 ــ صفوة التفاسير، ج2 ص154.
4 ــ تفسير القرآن العظيم، ج5،ص59 .
5 ــ صفوة التفاسير، ج3،ص107.
6 ــ تفسير القرآن العظيم، ج7،ص112.
7 ــ تفسير القرآن العظيم، ج7 ص317.
8ــ تفسير القرآن العظيم، ج8 ص133 ـ 123.