فلسفة الكذب.. الفكر والتاريخ ذ.طارق الحمودي

ليس من شك في أن هذا العصر، عصر الكذب بامتياز، يصور الكاذب فيه في صورة الصادق، والصادق في صورة الكاذب، كما ورد في الحديث الصحيح، وقد استطاع هذا الطغيان كما ونوعا أن يصنع طوائف من الناس طبعت بالكذب لكثرة تحريها له، ولعل من أبرز أنواعه الضارة بالأفراد والمجتمعات، بل بالدول، ما يسميه الناس “الإشاعات”، وهذا النوع من الكذب تخصص فيه أهل النفاق على اختلاف أيديولوجياتهم.
فالمنافق إذا حدث كذب كما ورد في الحديث، وقد حاول هذا النوع من الكذب أن ينال من الدعوة الإسلامية في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعة دعوته، فكان الكذب في شكله الإشاعي جزء من أحداث السيرة النبوية، ولعل من أشهر أفراده ما وصفه القرآن بالإفك الذي طال عرض النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة الحصان الرزان رضي الله عنها. ثم تطور الأمر إلى نوع آخر من الكذب، لم يكن ضرره أقل من ضرر هذا النوع، وهو الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الحديث اختلاقا.
للكذاب نفسية مريضة، تحجب عنه رؤية طبيعة الجرم الذي يمارسه بعين البصيرة، فإن انضاف إلى ذلك دوافع قوية -قاهرة أحيانا- للكذب، صار الكذب عنده حينها فلسفة تنطبع معالمها في الخارج في صورة ممارسات شاذة ومهلكة، نفسية غريبة قد تجعله يوهم نفسه وغيره أنه هو الصادق، كما وقع لكذاب كان يروي الأحاديث المصنوعة المخترعة المكذوبة، ويرويها بإسناد عن الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فاتفق مرة أن كانا في المجلس، فاستنكرا عليه بعد إنهائه له، فتبسم مستهزئا بهما، ناعتا يحيى بن معين بالحمق قائلا: “قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين”… وهو الذي عبر عنه أحد المسؤولين النازيين بقوله: “اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك”.
بل قد يجد بعض الكذابين حلاوة في قلوبهم أثناء الكذب، كما في كتاب الضعفاء للعقيلي الذي روى عن بعض هؤلاء الكذابين قوله: “لو تغرغرت به مرة ما نسيت حلاوته”، بل كان بعضهم يخشى أن يقول الصدق، فعنده أيضا أن أحدهم سئل، هل صدقت قط؟ قال: أكره أن أقول: لا، فأكون قد صدقت!
وحدثني شيخنا محمد بوخبزة أن أحمد ابن الصديق الغماري قال في بعض الكذابين: كان لا يقول الصدق إلا نسيانا! هذا النوع وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بـ”تحري الكذب” كما في الحديث، “ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”، وسيرتقى الكذب عند بعض الفرق المنسوبة للإسلام إلى مستوى التعبد في صورة تقية، ففي بعض الروايات عندهم: “التقية ديني ودين آبائي”!
وقد امتاز علماء هذه الأمة بقدرة فائقة على مواجهة هذا الفكر الكذبي عبر التاريخ، وكان علماء الحديث الحزب المتقدم في ذلك، فقد أخذوا على أنفسهم أن يتابعوا الكذب وأصوله، ويحققوا دوافعه وأنواعه، ويفضحوا أصحابه وأنصاره، والحديث في هذا يطول، لكنني آخذ منه بقدر ما يبين طبيعة الحملة التي تولاها المحدثون خاصة وعلماء المسلمين ضد فلاسفة الكذب.
استمر هذا الفكر موجودا، ولا يزال في زماننا كذابون على نفس أخلاقيات أجدادهم، ولا زلنا نتتبعهم على طريقة أسلافنا، وقد كانت لهم في كشفهم آليات كثيرة، أجتزئ منها ثلاثة، أولها نسيان الكذاب، وقد روى العقيلي في الضعفاء عن القاسم بن محمد قال: “إن الله عز وجل أعاننا على الكذابين بالنسيان”، وكما يقال عندنا في الدارجة: نسي الكذاب وسقسيه!! الثانية التاريخ، فقد يزعم الكذاب شيئا لا يساعده عليه التاريخ، ويستحيل حدوثه وفق قوانين الكون المعتادة، كأن يدعي لقاء شخص مات قبل ولادته، والثالثة استحالة الكذبة في الواقع.
واليوم، يمارس الإعلام الفاسد الكذب بطريقة مهنية، مستصحبا نفس النفسية والحالة التي كان عليها آباء الكذب الأوائل، حتى صار ينعت بالدجال، ولعل أقبح الدوافع إليه الارتزاق، وهذه حالة الصحافة المرتزقة، والطعن في الدين وهذه حالة الإعلام العلماني الإقصائي، وهؤلاء مفضوحون على كل حال، فحبل الكذب قصير كما يقال، وقد نقل الخطيب البغدادي في الجامع عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: “لو أن رجلا همَّ أن يكذب في الحديث أسقطه الله عز وجل”! ونقل عن سفيان قوله: “إني لأحسب رجلا لو حدث نفسه بالكذب في الحديث لعرف به”.
أختم بكلمة حمالة للرسائل لابن الجوزي في الموضوعات ونصها: “رد الله كيد هؤلاء الوضاعين والكذابين بأخبار أخيار فضحوهم وكشفوا قبائحهم, وما كذب أحد قط إلا وافتضح, ويكفي الكاذب أن القلوب تأبى قبول قوله, فإن الباطل مظلم, وعلى الحق نور, وهذا في العاجل, وأما في الآخرة فخسرانهم فيها متحقق”.
فليكن هذا المقال كمدخل مختصر جدا لهذا الفكر العجيب، وإلا فإن الكذب عند أهله عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *