قد يبتلي الله تعالى عباده بالضعف والنقص في الأموال والأنفس، “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” البقرة:155، وقد تتعدد تبعات هذا الضعف وأشكاله وتداعياته من سخرية وتهديد وتضييق وتعنيف وتنكيل وتهجير وغيره، وما تعانيه شعوب من الأمة الإسلامية في زماننا من أصناف هذا البلاء، ما هو إلا صورة ناطقة عن حال الضعف والوهن الذي استشرى في الأمة وبات ينخر جسدها ليل نهار، وهذه نبوء صادقة نراها تتجسد في أيامنا ولا ندري إلى أي حال ستؤول.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ” صحيح الجامع: 8183.
سنة كونية
سِيَر الأنبياء والرسل، ومحطات الدعوة إلى الله تعالى على مر التاريخ شاهدة على استضعاف أهل الحق، والاستخفاف بعقيدتهم والاستهزاء من دينهم، والسخرية من شريعتهم، “قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ” هود:91.
أعذار واهية
كثير من ضعاف النفوس والعزائم لا يجدون حرجا في تبرير مواقفهم المخزية وتصرفاتهم السلبية بأعذار واهية، محاولين إخفاء عجزهم وتدليس الحقيقة وتضليل الصواب، وهؤلاء هم من يتسببون عادة في شق الصف وتصديع اللحمة، لأن لهم القدرة والاستطاعة المادية والجسدية لكنهم يتخلفون عن الإقدام ويتوارون عن المبادرة، إلا فئة عجزها بَيِّن وضعفها ظاهر لها عذرها ولا حرج عليها.
“إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا” النساء:97–98.
جدال عقيم
يصور لنا القرآن الكريم مشاهد من الدنيا والآخرة لما يدور من جدال بين فريقين متضادين، قوم مستضعفون وآخرون مستكبرون، كل منها يبرر موقفه محاولا إقناع الآخر.
ففي مشهد الدنيا يظهر أهل الكِبر رافضين للدعوة، مستكبرين عن الحق مصرحين بذلك جهارا لمن آمن من المستضعفين، “قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ ” الأعراف:75-76.
أما في مشهد الآخرة فيتبرأ كل فريق من الآخر، ويحمل كل منهما الآخر مسؤولية مآله، “وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” سبأ:33.
رفع للمشقة والحرج
يتجسد في مواضع متفرقة من القرآن.
التخفيف على المؤمنين ومضاعفة أسباب الغلبة لديهم، “الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” الأنفال:66.
عند ضعف الطاقة البدنية والمادية، “لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ” التوبة:91
الفئة المستثناة من الرجال والنساء والولدان الذين لا حيلة لهم في الدفاع عن أنفسهم، “وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا” النساء:75
العبد صاحب الحجة الصادقة والبينة الخالصة والدليل القاطع، “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” الأعراف:150
تذكير من الله تعالى
يحيلنا القرآن الكريم إلى آلاء الله تعالى ونعمه على عباده في معرض تذكيره عز وجل لهم بالنصر والتمكين، بعد أن كانوا ضعفاء قليلي العدد والعدة، أذلة مستصغرين في نظر أعدائهم، “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” آل عمران:123.
ويذكرهم جل ثناؤه، بما مَنَّ عليهم من تكثير في العدد “وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ” الأعراف:86.
وربط على القلوب وتثبيت للأقدام، “إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ” الأنفال:11.
وتقوية للشوكة وإعلاء للراية، ورفع للكلمة وتأييد بالنصر، “وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” الأنفال:26.
ثم يختتم هذا المسار الشاق من الصبر والتضحيات بالبشارة السارة، وهي إرادة ربانية ومشيئة إلهية، “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” القصص:5، جزاء لصدق صبرهم، وحسن توكلهم، وثبات عقيدتهم، وصلاح دينهم، وامتثال أوامر ربهم، والأخذ بسنة أنبيائهم، أن أورثهم الأرض واستخلفهم فيها، وبوأهم مشارقها ومغاربها وسخر لهم كل خيراتها، “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ” الأعراف:137.
اللهم انصر عبادك المؤمنين المستضعفين في كل مكان.
والحمد لله رب العالمين.