الرَّابطَة المَتينَة بين العَربيَّة والقُرآن 1/2 دة. صفية الودغيري

إنَّ أسلوب القرآن ليس له نظيرٌ أو مَثيلٌ أو شَبيه، وهو الأسلوب الأمْثَل والمُعْجز للُّغَة العربيَّة، التي بلغت قبل نزوله مَبْلغا من الرُّقي والسُّمو..

وقد ذكر د. مازن المبارك: “أنَّ العربيَّة قد بلغت قبل نزول القرآن مَبْلغًا من الرُّقِي والكمال، وأصابت في أسواق العرب ـ حظًّا من الوحدة، ولكن لما نزل بها القرآن بلغت به ذِرْوَة الكمال الفَنِّي للُّغة، واتَّصَف أسلوبه فيها أو أسلوبها فيه بالإعجاز، وبلغت به مداها الأَبْعَد في الثَّبات والتَّوحد واتِّساع الرُّقعة ومَدِّ السُّلطان”[1].

وأنَّ الإسلام قد أَوْجَد ارتباطًا لا انْفِصام له بينه وبين اللُّغَة العربِيَّة، ثم فرضه فرضا أينما حَلَّ، ويحملها معه أينما انتشر، فكان من أثر هذا الارتباط المُبارَك أن عادت على اللُّغة العربِيَّة جهود وثمرات لم يبذلها أَصحابها يوم بذلوها إلا خدمة لهذا الدِّين، فكان من مفاخر اللِّسان العربي أن كان هو المظهر اللُّغوي للمعجزة الإلهِيَّة الخالدة المُتَجلِّية في القرآن[2] .

وأنَّ العرب وإن كانوا على معرفة تامَّة بأساليب هذه اللُّغة، ولكنَّ لغتهم بحروفها وألفاظها جاءتهم هذه المرَّة بما بهَر ألبابهم وسَبى عقولهم، حين نفخ فيها القرآن من روحه، وأَلْبسَ أسلوبها من أسلوبه المُعْجِز في ظاهِره وباطِنه، ولفْظِه ومعناه، بما لم يَسْتطيعوا لأَثرِه في أنفسهم دَفْعًا.. [3].

فلا غَرْوَ إذًا أن تكون اللُّغة العربيَّة ليست كسائر اللُّغات الأخرى، لأنَّها تمثِّل مَظْهرًا رائِعًا لامْتِزاج الشَّكل العربي بالمضمون الإسلامي..[4].

 

1ـ الفَضْل الحقيقي للعرب واللُّغة العَربيَّة

لكلِّ قوم لغتهم الخاصَّة التي تُحَدِّد مُقَوِّمات شخصِيَّتهم ومعالم هويَّتِهم، ولقد خَصَّ الله العرب بأَحْكام تمَيَّزوا بها، وشَرَّف قريشا على سائر العرب بشرف الرِّسالة المُحَمَّديَّة، وخَصَّهم باللِّسان العربي، ولعلَّ سبب ما لهم من فضل على غيرهم من العجَم، يرجع إلى ما سبق وذكره الإمام ابن تيمية في كتابه: “اقتضاء الصِّراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم”، حيث قال: “ما اخْتصُّوا به في عقولهم، وأَلْسِنَتهِم، وأَخْلاقهِم، وأَعْمالهِم. وذلك أنَّ الفضل: إما بالعِلم النَّافع، وإما بالعمل الصَّالح (…) والعرب هم أَفْهَم من غيرهم، وأَحْفَظ وأَقْدَر على البيان والعبارة. ولسانهم أتَمُّ الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني، جَمْعًا وفَرْقًا، يجمع المعاني الكثيرة في اللَّفظ القليل”[5].

ومهما كانت أسباب فضل العرب على العجم، فإنَّ مَبْناه على ما استقاموا عليه في أقوالهِم وأفعالهِم، وما خَلا من مظاهر الجاهِليَّة وعادتها، وما انْجَلَتْ عنه الظُّلُمات الكُفْرِيَّة، ووافق الشَّريعة والرِّسالة المُحَمَّدِيَّة، واحْتكَم إلى أحكام الهَدْي الإلهي العظيم، وما اسْتَقْبلَته الفِطَر السَّليمة واسْتَنارَت بهُداه القلوب واسْتَقامت، فزالت عنها الرُّيون وآثار الكفر، وتطَهَّرت من أَنْجاس الآثام والذُّنوب ..

وقد نبَّه إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر أنّ العرب قد اخْتَصُّوا وتمَيَّزوا عن غيرهم بغرائزهم التي كانت أَطْوَع للخير: “فهم أقرب للسَّخاء، والحِلْم، والشَّجاعَة، والوَفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام  طبيعة قابلة للخير، مُعَطَّلَة عن فعله، ليس عندهم عِلم مُنَزَّل من السَّماء، ولا شريعة مَوْروثَة من نبي (…) فلما بعث الله محمَّدًا صَلَّى الله عليه وسَلَّم بالهدى..، أخذوا هذا الهَدْي العظيم بتلك الفطرة الجَيِّدة، فاجتمع لهم الكمال بالقُوَّة المخلوقة فيهم[6]. والكمال الذي أنزل الله إليهم -بمنزلة أرض جَيِّدَة في نَفْسِها، لكن هي مُعَطَّلة عن الحَرْث، أو قد نبَتَ فيها شجَر العَضاة[7]، والعَوْسَج[8]، وصارت مأوى الخنازير والسِّباع، فإذا طَهُرَت  من المُؤْذي من الشَّجَر والدَّواب، وازْدَرَع فيها أفضل الحبوب والثِّمار- جاء فيها من الحَرْث ما لا يوصف مِثْلُه، فصار السَّابقون الأَوَّلون، من المهاجرين والأنصار أفضل خَلْق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل النَّاس بعدهم، من اتَّبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، من العرب والعجَم”[9].

والذي يجب على المسلم إذا نظر في هذا الكلام ووَعاه، أن يَعْتبِر بمعناه ويتأمَّل في فحواه، وأن يدرك المراد الذي لا يَتِمُّ الكلام إلا بفهم مَرامِه وبلوغ مقصده، وأن يَسْلُك سبيل التَّوسُّط والاعتدال، فلا يربط أفضلِيَّته ولا أفضليَّة قومه أو قبيلته أو عشيرته بجِنْسهِم، بل بما لهم من فضل في الأقوال والأفعال، وما صادَق من تلك الأقوال والأفعال ما جاء في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسَلَّم، وأنَّ اتِّباع الدِّين الحق والمنهج الحق والمذهب الحق هو الفضل الحقيقي وهو المُرْتَقى الأَمْجَد..

وهذا ما أكَّد عليه الإمام ابن تيمية حين أرشد إلى نَهْي الله سبحانه على لسان رسوله عن نَوْعَي الاسْتِطالة على الخَلق،  وهي: الفَخْر والبَغْي، لأنَّ: “المُسْتَطيلَ إن اسْتَطال بحق فقد افْتخَر، وإن كان بغير حق فقد بَغى، فلا يحِلُّ لا هذا ولا هذا”[10]..

فعلى من يتمعَّن في معنى الأفضليَّة أن يسعى لامتلاك أسباب بلوغها، ويسلك السَّبيل الواضح لإدراك مرتبتها العُلْيا، كما يجب عليه: “إذا نظر في الفضائل، أو تَكلَّم فيها أن يسلك سبيل العاقل الدَّيِّن، الذي غرضُه أن يعرف الخير، ويَتحَرَّاه جُهْدَه، ليس غرضُه الفَخْر على أحد، ولا الغَمْص من أحد (…) فإن كان الرَّجُل من الطَّائفَة الفاضلة، مثل: أن يذكر فضل بني هاشم أو قريش أو العرب أو بعضهم، فلا يكون حظُّه استشعار فضل نفسِه والنَّظَر إلى ذلك، فإنَّه مخطئ في هذا لأنَّ فضل الجِنْس لا يستلزم فضل الشَّخص”[11].

وما يقال عن أفْضَليَّة العرب، يقال على اللُّغة العربِيَّة،  ففضلها فيما اجتمع لها من قُوَّة في البيان والعبارة، ثم اكتملت هذه القُوَّة وأشرقت واستنارت حين اختارها الحقُّ سبحانه من بين سائر اللُّغات، وأنزل كتابه العزيز بلسان عربي مبين، فتبَوَّأت الذِّرْوَة والسَّنام، وعَبَّرت عن سُموِّها ودِقَّة معانيها ..

وقد أرشَد د. مازن المبارك في كتابه: “نحو وعي لغوي” إلى ضرورة الوعي بحقيقة هذه اللُّغة، وتمييزها عن سائر اللُّغات، وأكَّد على أنَّ: “اللُّغة من الأمَّة أساس وحدتها، ومرآة حضارتها، فكيف إذا كانت ـ إلى ذلك ـ لغة قرآنها الذي تبوَّأ الذِّرْوَة، فكان مظهر إعجاز لغتها القومِيَّة، ومُسْتَودَع عقيدتها الدِّينية، فأعطاها مَثلاً في الصِّياغَة اللُّغَويَّة، كانت به بين اللُّغات مَثلاً فَريدًا في الإعجاز اللُّغَوي”[12]..

كما أثنى على هذه اللُّغة الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، وتحدَّث عن حاضرها ومشاكلها في كتابه: “حاضر اللغة العربية”، باعتبارها اللِّسان النَّاطِق بهويَّتِها، والمُعَبِّر عن خصوصِيَّاتها، ومُقَوِّماتها الفِكريَّة والمعرفِيَّة فقال: “اللُّغة العربيَّة هي جَوْهَر الذَّاتية الخاصَّة للأمَّة العربيَّة الإسلامِيَّة، والعنصر الرَّئيس في البناء الثَّقافي والحضاري، الذي رفعت الأمَّة صُروحَه عبر الزَّمان، ولذلك كان التَّفريط في هذا الجَوْهَر، تفريطا في هذا العنصر الذي هو من أهم مُقَوِّمات الأمَّة، بعد الإسلام دين الله الخالد الذي أنزل كتابه الحكيم باللِّسان العربي المبين، واختار رسوله الكريم محمَّدا بن عبد الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، من خير أهل هذه اللُّغَة التي شَرَّفها الله ومَيَّزَها بين لغات العالم،  فكانت ولا تزال وستبقى دائما لغة الفصاحة والبلاغة، والمَوْرِد العَذْب المُتَدَفِّق، وكان في الحفاظ على هذه اللُّغة صَوْنٌ للهويَّة وحفظ للكيان، واستمرار لفهم الميراث المعرفي الحضاري الثَّمين، الذي تناقلته الأجيال وأضافت إليه في مجالات الحياة المختلفة”[13].

لذلك لا يمكن أن تُقاس اللُّغة العربيَّة بغيرها في مرتبتها، أو أن تساويها فيما أدركته خاصَّة بعد أن نزل القرآن بها، وقد نبَّه الأستاذ محمد الطنجي[14] في مقالته “القرآن ودعامة الوحدة” إلى تلك الرَّابطَة المتينة بين هذه اللُّغة والقرآن والشَّريعة عموما فقال: “فقد تَوحَّدت به -يقصد القرآن الكريم- اللُّغة العربيَّة، وكُتِبَ الخلود به للغة قريش، لأنَّ القرآن نزل بها وبلهجتها، وزاد على الآثار الأدبِيَّة الأخرى المقروءَة والمدروسَة بكونه لغة صلاة المسلمين اللاَّزمة خمسَ مَرَّات في اليوم واللَّيلة، يقرأ جميع المصلِّين كلَّ يوم حِصَّة منه، ويناجون ربهم به، في مناجاتهم ودعواتهم وابتهالهم على اختلاف جنسِيَّاتهم، ففيه نبأ ما قبلهم وخبر ما بعدهم، وحُكم ما بينهم من قصص للاعتبار، وأمثال للاستبصار إلى حكمة دامِغَة، وعِظَة بالغة، وتشريع مُحْكم، على أساس العدالة والحَقِّ  المُبْرم”[15] .

ليرشد بعدها إلى أنَّ القرآن هو دعامَة اللُّغة العربِيَّة ورابطتها، ويُسْتَوْحى من ذاك أنَّ الارْتِباط بالقرآن هو أهم دعائم الوحدة الإسلامِيَّة، وهو يشتمل على العناصر المهمَّة لتدعيم واستمرار هذه اللُّغَة، لذلك: “ينبغي لكلِّ مومن ومُثَقَّف، وكلِّ وطَني يحبُّ وطنه، أن يشعر من أعماق قلبه بجامعة اللُّغة العربيَّة، ورابطة  العقيدة الإسلامِيَّة، ومصلحة التَّشريع المشترك، وفوائد توحيد المشاعر والأهداف الوطنيَّة العُلْيا، التي عادت على الأمَّة الإسلامِيَّة جَمْعاء بكلِّ خير، حتى اسْتَظلَّت تحت راية القرآن والوطن الإسلامي الكبير زُهاءَ خمسمائة مليون من البشر، لا ينقصهم لتكون لهم الكلمة العُلْيا في الميدان والميزان الدَّولي، إلا أن يُعاوِدوا سيرة أسلافهم في الإخلاص للغة القرآن والعمل بشريعته”[16].

وفي مقالة أخرى يربط اللُّغَة العَربيَّة بالقومية العربية، معتبرا نزول كتابه العزيز المَحْفوظ بوعده الصَّادق على لسان الوحي النَّاطِق هي ميزة، وهي الطَّابَع الحقيقي للقومِيَّة العربيَّة ..[17] .

والقرآن إذ نزل بلغَة العرب وأساليبها، وخاطب الله بكتابه العرب بلسانها، فذلك لما تعرفه من معانيها ولاتِّساع لسانها، فقضى سبحانه أن تُنْذَر هذه الأمَّة وتُبَشَّر بلسانها العربي لا بلسان غيرها: “لأنَّه لا يعلم من إيضاح جُمَل عِلم الكتاب أحد جهل  سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه وجِماع معانيه وتَفَرُّقها، ومن عَلِمَه انتفت عنه الشُّبَه التي دخلت على من جهل لسانها”[18].

——————————————————

[1]  نحو وعي لغوي/ د.مازن المبارك، ص 126 ـ 127

[2]  المرجع نفسه: ص 126 (بتصرف)

[3]  المرجع نفسه: ص 127

[4]  المرجع نفسه: ص 8

[5]  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/399 ـ 400

[6]  أي قوة العقل الكامنة في فَضْل العِلم النافع، وقوة المنطِق الكامنة في البيان والعبارة، وقوة مَبْناها الأخلاق والغرائز المخلوقة في النفس والطبيعة القابلة للخير ..

[7]  كل شجر له شوك

[8]  شجر من أشجار الشوك له ثمر مدور صغير

[9]  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (بتصرف): 1/400 ـ401

[10]  المصدر نفسه: 1/405

[11]  المصدر نفسه: 1/405

[12]  نحو وعي لغوي: ص 7

[13]  حاضر اللغة العربية/ الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، ص 7

[14]  هو الأستاذ المصلح والفقيه الأديب محمد بن مَحمد ابن أحمد الطنجي الأصل، التطواني المولد والمَنْشأ والدَّار، ولد بتطوان سنة 1320 ه، اشتغل بدروس الوعظ والإرشاد بالجامع الكبير بتطوان، وعمل  كاتبًا بمديرية الأوقاف في تطوان، وكاتبًا أول بوزارة العمل الاجتماعي بعاصمة المنطقة الخليفية، كما عمل في سلك التدريس بالمعهد الديني بتطوان، وعُيّن رئيسًا لقسم الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط، ثم رئيسًا لتحرير مجلة «دعوة الحق» التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وكان عضوًا برابطة علماء المغرب ونائب أمينها العام، من مؤلفاته: خطب الجمعة لعهد الاستقلال، وقصائد شعرية في مناسبات مختلفة، وبحوث ومقالات نُشرت في عدة صحف ومجلات ـ ترجمته في ” إسعاف الراغبين بترجمة ثلة من علماء المغرب المعاصرين/محمد بن الفاطمي السلمي الشهير بابن الحاج: َ ص 200 .. 205

[15]  مجلة دعوة الحق ـ العدد السابع (السنة الثانية، أبريل 1959م/ رمضان ـ  شوال 1378 ه): ص 17.

[16]  المجلة نفسها: ص 17

[17]   اللغة العربية والقومية العربية/ محمد الطنجي: مجلة دعزة الحق ـ العدد الثامن ( السنة الثانية، أبريل 1959م/ رمضان ـ  شوال 1378 ه): ص 26

[18]  الرسالة / الإمام الشافعي ـ تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر ـ  مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ ط. الأولى (1357 هـ / 1938م) : ص 50

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *