الشكر نصف الإيمان، وسبيل العبد إلى الجنان، ومن أعلى منازل أهل العرفان.
أمر الله به، ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببا للمزيد من فضله، وحارسا وحافظا لنعمته.
قال تعالى:” وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ”.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تورمت قدماه فقيل له: تفعل وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا؟
حقيقة الشكر:
أصل الشكر في وضع اللسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورا بينا.
يقال: شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا: إذا ظهرعليها أثر العلف، ودابة شكور: إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل.
وكذلك حقيقته في العبودية، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا، وعلى قلبه: شهودا ومحبة، وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة.
والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.
فهذه الخمس هي أساس الشكر وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدة: اختل من قواعد الشكر قاعدة.
سبب قلة الشكر:
أصل قلة الشكر الجهل بالنعمة وسبب الجهل بالنعمة، قصور العلم بالله تعالى، وطول الغفلة عن المنعم، وترك التفكر في نعمه، والتذكر لآلائه ومِننه سبحانه وتعالى، فقد أمر بذلك في قوله تعالى:” َاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” قيل: نعمه، وقال: ” وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” يعني: على نعمة الهداية وتوفيق الطاعة.
فإذا جهل العبد النعمة لم يعرفها، وإذا لم يعرفها لم يشكر عليها، وإذا لم يشكر عليها انقطع مزيده.
أفضل النعم:
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح عن ابن العربي المالكي رحمه الله أنه قال في أول نعمة أنعمها الله علينا: “قيل الإيمان، وقيل الصحة، وقيل الحياة، ثم قال: والأول أولى”.
ولذك فأفضل النعم نعمة الإيمان ثم دوامه، لأن دوام الشيء نعمة ثانية، ولا يستطيع العبد شكر نعمة الإيمان، ومعرفة بداية التفضل به وقديم الإحسان من غير قدم من العبد ولا استحقاق، بل بفضل الله وبرحمته، وهذا أحد الوجوه في قوله تعالى: ” كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ” أي: لا يقض العبد أبدا شكر ما أمره الله تعالى من نعمة الإسلام التي هي أصول النعم في الدنيا والآخرة، وهي سبب النجاة من النار، ومفتاح دخول الجنة ومن هذا قوله تعالى: ” كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ” أي: قواهم بمدد يثبتهم ويقويهم، وهو معنى قوله تعالى: ” يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ”.
قال ابن القيم رحمه الله: “شكر العامة: على المطعم والمشرب والملبس، وقوت الابدان.
وشكر الخاصة:على التوحيد والإيمان وقوت القلوب” المدارج.
“لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”
شكر نعم الله تعالى -بالقلب والقول والجوارح- يستوجب المزيد من الله تعالى تفضلا ومنة وكرما، كما قال تعالى: ” لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “وقوله: “لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ” أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها “وَلَئِن كَفَرْتُمْ” أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها “إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها”.
قال بعضهم:
لئن شكرتم لأزيدنكم مقالة الله التي قالها
فالكفر بالنعمة يدعو إلى زوالها والشكر أبقى لها
قال أحد السلف: “من أعطي أربعا لم يمنع من أربع، من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب”.
بين الصبر والشكر:
من الناس من يقول: إن الصبر أفضل من الشكر.
والتحقيق: أن كل مقام من مقامات المقربين يحتاج إلى صبر وشكر، وأحدهما لا يتم إلا بالآخر، لأن الصبر يحتاج إلى شكر عليه ليكمل، والشكر يحتاج إلى صبر عليه ليستوجب المزيد، وقد قرن الله تعالى بينهما، ووصف المؤمنين بهما، فقال: ” إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” فذكر الشكر بلفظ المبالغة في الوصف على وزن فعول، كما ذكر الصبر على وزن فعال، وهو وصف للمبالغة أيضا، ولذلك اقتسما الإيمان نصفين.
الفرق بين الحمد والشكر:
قال ابن القيم: “تكلم الناس في الفرق بين الحمد والشكر أيهما أعلى وأفضل؟ والفرق بنهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، أخص من جهة الأسباب.
ومعنى هذا:أن الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافا، وبالجوارح طاعة وانقيادا، ومتعلقه: النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه، وهو المحمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم، فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإن الشكر يقع بالجوارح، والحمد يقع بالقلب واللسان” مدارج السالكين 2/246.
وقال رحمه الله: “الشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، وسبب الحمد أعم من سبب الشكر، ومتعلق الشكر وما به الشكر أعم مما به الحمد، فما يحمد الرب تعالى عليه أعم مما يشكر عليه، فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه، ويشكر على نعمه، وما يحمد به أخص مما يشكر به، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان” عدة الصابرين 145.