ما بعد الحداثة
هي كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في (قضية المرأة ص4): (عصر سيادة الأشياء.. وإنكار المركز والمقدرة على التجاوز وسقوط كل الثوابت والكليات في قبضة الصيرورة).
ويشرحها الدكتور بأنها عصر الواحدية السائلة؛ حيث تتصاعد معدلات الانحلال والتفكيك إلى أن تصير إلى تفكك كامل.. ويغيب كل يقين وتتعدد المراكز والمرجعيات ويكون العالم مفككا لا مركز له تتساوى فيه الأطراف ولا يوجد فيه قمة ولا قاع، فلا حدود ولا قيود.. فتغيب الإنسانية، ويحبس الإنسان في سجن الصيرورة، حيث يخضع كل شيء للتجريب المستمر خارج أي حدود أو مفاهيم أو قيم مسبقة، ويبدأ البحث عن أشكال جديدة للعلاقات بين البشر، ولا تهتدي بالتجارب التاريخية للإنسانية، فتنقطع عن ماضيها ولا تستحضر مستقبلها..!
فما بعد الحداثة كما قال بيتر بروكر في كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة ص:12) يقدم وجهة نظر جدلية للاستجابة الحسية ولغة الجسد حول التحليل الفكري، وأنها أعلنت عن نفسها في الأنماط الشعبية العشوائية المفتوحة، وسعت إلى عقد تحالف مع الثقافة المضادة التي اعتنقها الشباب، كالمخدرات والروك أندرول في تحد سافر لثوابت الحياة الأدبية… وأنها تقترن بأبخس أنواع الثقافة وأدناها قيمة وبالنزوع إلى الاستهلاك وتهاجم الماضي وترتبط بالتفكيك لكل صور المعرفة والثقافة، وتغرس فلسفة الشك في كل شيء.. وتبدي ارتيابا في الأفكار والتصورات الكلاسيكية كفكرة الحقيقة والعقل والهوية والموضوعية والتقدم كما يقول تيري إيغلتون في مقاله (ما بعد الحداثة وما بعد الحداثية/المنشور ضمن مجموعة بإشراف محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي).
معالم ما بعد الحداثة
أما معالمها فالدعوة إلى إسقاط القيم الإنسانية والدينية المؤطرة لحركة المجتمع، وإقرار القطيعة مع كل شيء؛ مع الله؛ ومع الوالدين؛ ومع المجتمع. وسكب حمم الثورة على كل شيء وعلى النفس أيضا؛ فينتشر العري والدعوة إليه وحمايته إعلاميا وسياسيا، وهو ما سماه الدكتور فريد الأنصاري بالفجور السياسي والإعلامي.
ومن معالمها إفساد الذوق العام بأدبيات ساقطة لا معنى لها، وفنيات متهافتة فارغة المضمون، فتجد لوحة فنية مرسومة بأرجل الدجاج، وأخرى عبارة عن تشابك بين الخطوط..ثم تعرض في أكبر المتاحف على أنها أعمال كبرى وتباع بأثمان خيالية..
هذه هي ما بعد الحداثة الفنية أما في الأخلاق فإن هجر ثنائية الذكر والأنثى جعل مرضى ما بعد الحداثة لا يفرقون بين إنسان وإنسان أبدا.. فاستباحت بعض كنائس ما بعد الحداثة زواج المثليين كما يقال، بل ورأينا أناسا يتزوجون الحيوانات، وانخلع الإنسان من إنسانيته، وسلم نفسه للريح الغربية القوية الجارفة لما يصادفها وترميه إلى الربع الخالي مكانا وزمانا.
وقد تولى كبر هدم تلك الثنائية الحركات المتمركزة حول الأنثى على اصطلاح الدكتور عبد الوهاب المسيري؛ أو حركات النزعة الأنثوية في عصر ما بعد الحداثة كما عند عطيات أبو السعود في مقال له بعنوان (نيتشه والنزعة الأنثوية) المنشور ضمن مجموعة مقالات بعنوان: (نيتشه وجذور ما بعد الحداثة/ص:69).
ولعل من المتفق عليه أن نيتشه فيلسوف الحداثة الملحد المغرور أحد أهم أصولها.. وانظر كتاب (نيتشه وجذور ما بعد الحداثة).. وكيف لا يكون نيتشه كذلك وهو القائل في (هذا هو الإنسان/ص77): (إن الدعوة إلى العفة تحريض عمومي على معاكسة الطبيعة).
ونيتشه مفتاح لمعرفة حقيقة الحداثة وما بعد الحداثة.. وفلسفة الغرب المعاصرة. قال عبد الوهاب المسيري رحمه الله في مقال: (نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر): (لا يمكن فهم إشكالات الفلسفة الغربية المعاصرة إلا بفهم محورية فلسفة نيتشه).
العقل فيما بعد الحداثة
أما العقل فيما بعد الحداثة فقد دفن في أرض نسيها دافنوه فيها بعد دفنه.. وآثروا أن يستغلوا اسمه دون مسماه.. فثاروا عليه لأنه كان يعقلهم ويصدهم عن الانفلات من قيود المجتمع والأخلاق.. فلإن كان العقل رمزا لزمن الحداثة بدرجة (حسن جدا) عندهم.. فعدمه أس ما بعد الحداثة بدرجة امتياز…عندهم أيضا!
الحرية في ما بعد الحداثة
وبعد هذا يسهل جدا معرفة موقع الحرية في ما بعد الحداثة لأنها أصلا ثورة على (القيد) بمعناه الواسع، فالحرية المطلقة هي عنوانها ومحركها وفلسفتها .
فلا استغراب أن يدعو أهلها إلى كل ما يخالف الدين والأخلاق والأعراف الاجتماعية بما في ذلك العقود الاجتماعية والقوانين العقلية بل والطبيعية.
ومن ذلك أن ترى بعض أهلها يزعمون أنهم يدعون إلى الحداثة -زورا وتدليسا- فما بعد الحداثة إنما هي ثورة على الحداثة؛ فإنهم رأوها لم توفر لهم الحرية المنشودة؛ ولم تمكنهم من الانطلاق بدون هدف؛ فثاروا عليها ونسخوها وأبطلوا العقل؛ إلا أن يستعملوا اسمه في لافتة يموهون بها على من يراهم من بعيد.
وأمثال هؤلاء لا يمكن محاورتهم لأنهم لا يؤمنون بضابط في الحوار، ولا مرجعية حاكمة، ولا بمركز للدوران، لأن العقل عندهم موظف يساعدهم على عدم التمركز، عوض أن يكون هاديا موجها لهم إلى هدف محدد واضح الملامح لتحقيق عقلانية المصالح.
هذه فقط محاولة لإثارة الموضوع؛ فإني أزعم أن هناك محاولات للتمويه والتدليس في هذا وقد قرأت لبعض دعاتها وهو يؤكد أن ما بعد الحداثة جزء من تطور الحداثة الحتمي أي أن المرور في البلاد الإسلامية عبر مرحلة الحداثة سيؤدي ولابد إلى مرحلة ما بعد الحداثة.. والذي يعني قطع الصلة بالله تعالى نهائيا…!!
أخيرا
هذه إذن هي الحرية التي يدعو إليها الغرب اليوم.. وأماراتها واضحة لكل أحد في إباحة زواج المثليين وحرية الجنس وفساد الذوق الفني ..!!
أما علمانيو العرب والمغاربة خاصة فإنهم أيسوا أن تمر البلاد الإسلامية بمرحلة الحداثة على الطريقة الغربية.. ورأوا الأمور تتسارع في الغرب؛ فتعجلوا ما بعد الحداثة.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.