أنا لا أخاطب غير المسلمين، ولا أدعوا أهل أمريكا وأوروبا إلى الإسلام، فما كان لي أن أفعل ذلك وأنا أرى المسلمين منحرفين عن تعاليم دينهم وما جاء به، فهم أول من يدعى للتمسك بعروته الوثقى وهل أغنت الدعوات من هذا القبيل التي وجهت إلى القوم بلغاتهم ومن طرف رجال لهم عندهم مكانة، شيئا؟
هذا (كوت) شاعر الألمان يمتدح الإسلام ويقول: “إن كان هذا هو الإسلام فنحن مسلمون” ولكن ما هي النتيجة العلمية لهذه الدعاية من فيلسوف أديب، ككوت وألمانيا ما زالت من أكثر الشعوب تعنتا على الإسلام والمسلمين، ومستشرقوها في طليعة الدساسين الذين شوهوا محاسن هذا الدين، بله ما كانت عليه سياستها من اعتبار الفوارق بين الأجناس، وكون العرب حملة الهداية الإسلامية أحط جنس بعد اليهود؟…
وهذا الفيلسوف الفرنسي (كينو) ألم يرجح الإسلام على جميع المذاهب السياسية والاجتماعية والحلول التي وضعت لأزمة المدنية الحديثة، فلا الاشتراكية في نظره ولا الشيوعية ولا غيرهما من النظم الجديدة تستطيع أن تنقد البشرية من هذه الأزمة الخلقية والسياسية التي تتخبط فيها كما يستطيع الإسلام، وكم أشاد بروحانية الشرق وسمو الاجتماع الإسلامي سواء في كتابه “أزمة المدنية الحديثة” أو في كتابة “الشرق والغرب” أو غيرها تصريحا وتلويحا، ولم تكن النتيجة إلا اقتناعه هو وحده بصدق نظره، وارتحاله إلى مصر يقضي شيخوخته بين التأمل والتفكير في منزله، وعبادة ربه إلى أن توفي.
وإني لأعرف بعض تلاميذه الذين طبعهم بطابعه، وخرجهم في مدرسته، وهم مثله من أكثر الناس افتتانا بدعوة الإسلام، وشغفا بمبادئه العليا، ولكن أين يجيئون من هذه الأمة الفرنسية التي تعد أربعين مليونا، وهي برغم أنف لا دينيتها ما تزال تعتبر ابنة الكنيسة البكر، بما ترفع من سلطان الكثلكة على الإسلام، وما تتجنى عليه وعلى أهله من بغي وعدوان.
إنكلترة التي تحككت بالإسلام والمسلمين قرونا عديدة، والتي اشتهرت بحب الإغراب في كل شيء ألم يدعها (اللورد هدلي) في كتابه المعروف إلى الإسلام؟ ثم ألم يتنبأ كاتبها الفذ (شو) بأن الإسلام هو دين العالم في المستقبل؟ فهل بلغ ذلك إلا إلى حفنة صغيرة من أهلها اعتنقوا هذا الدين الحنيف؛ وإنَّ بهم لحاجة كبيرة إلى من يعرفهم حقيقته ويبين لهم أسراره من الوجهة العلمية أكثر من الوجهة القولية.
واليابان، بلاد الشمس المشرقة، هذه الأمة الوثنية التي كم تطلعت فيها المؤتمرات للنظر والمقارنة بين الأديان مع أنبت فيها من الدعاة الهنود وغيرهم المبشرين به وبمبادئه السمحة إلا أنه لم يبلغ فيها تعداد المسلمين إلى ما قبل الحرب الأخيرة أكثر من عشرين ألفا؟..
فهل هذا من ضعف الدعوة أو ضعف الدين؟..
أما ضعف الدين فليس هناك من يقول به، وأما ضعف الدعوة فيمكن أن يقال أنه لا بد من جهود أكثر، ومن طرق أحدث، للنفوذ إلى قلوب المدعوين وإصابة الهدف المقصود من إسلام شعوب أوربا وأمريكا، لو لم يكن هناك ما يعرقل نجاح هذه الدعوة ولو بلغت ما بلغت من القوة، ويشل حركتها، وإن اتخذت لها جميع الاستعدادات الممكنة، إلا وهو مخالفة حال المسلمين لمقتضى أوامر دينهم، واستبدالهم حقائقه الناصعة وأصوله العظيمة بالبدع والخرافات، التي قادتهم إلى بؤرة الجهل والرذيلة، وجعلتهم مضرب الأمثال في الذل والهوان…
فالأوربي والأمريكي والياباني حينما يرى المسلمين على ما هم عليه من الجمود والتأخر والجبن والخنوع واستيلاء الأجانب على بلادهم، واستغلالهم لخيراتها دونهم، وتجنيدهم لشبانهم في الحروب، وعبثهم بمصايرهم، وهم غير مستنكرين، يحكم بأنهم عبيد العصا، وأنهم لا كرامة لهم، وأنهم والحيوان الأعجم سواء، وربما حكم أن دينهم يأمرهم بذلك، فاستنتج أنه دين لا يجامع الحياة الشريفة والعزة القومية، وإنما يأمل بالذل والاستكانة للقوي الغالب، فكيف يرجى منه أن يقبل أو يسمع من الدعاة إليه..؟
والأغلبية من كتابهم على هذا الاعتقاد، فإنا نرى من تحليلهم للعقلية الشرقية، أي الإسلام وتفسيرهم لعقيدة القضاء والقدر عند المسلمين، ما ينبئنا بحقيقة رأيهم فينا وفي ديننا، وقد صارت لفظة (مكتوب) عندهم مما يتندر به علينا لأنها ترمز إلى الاستسلام والرضا بالواقع كيفما كان.
وإذا كان هذا رأي مثقفيهم، فما بالك بعوامهم، وهم السواد الأعظم، ويرشدك إلى هذا محافظة المسيطرين في البلاد الإسلامية على العوائد البالية والبدع الضالة، بدعوى أنها محافظة على الدين واحترام لشعور المسلمين، وهم إن كانوا صادقين في ذلك لم يخالفوا عما قاله الشاعر العربي حين قدم خيبر فقيل له إن شئت ألا تؤذيك حماها فانهق ببابها عشر مرات:
وقالوا أحب وانهق لا تضيرك خيبر وذلك من (دين اليهود) ولوع
لعمري لئن عَشَّرت من خشية الردى نهيق حمير إنني لجزوع
وهل هذا من دين اليهود؟ ولكن هل يكلف الأجنبي -كهذا الشاعر- نفسه بدراسة دين القوم حتى يعلم ما هو من دينهم وما ليس منه؟..
الواقع أننا بانحرافنا عن ديننا وعدم إتباع جادته، وتأويلنا لأصوله حتى يشايع أهواءنا، واهتمامنا بالنوافل منه دون الفروض، قد نشرنا له دعاية سيئة بين الأجانب، وفي الوقت الذي كثر فيه اهتمام الناس بأمر الدين وتطلعت النفوس إلى الحياة المادية في إسعاد البشر، في هذا الوقت الذي يوجب علينا أن نعرض الإسلام أجمل عرض لنحببه إلى هذه النفوس التواقة، ترانا نصد الناس عنه صدا ونقيم بينهم وبينه سدا من أقوالنا وأفعالنا واعتقادنا وسلوكنا فنجني عليه وعلى أنفسنا من حيث لا نشعر.
فتلك عقيدة القضاء والقدر مثلا التي أصبحنا نعبر بها. ويقال أنها السبب الأول في استسلامنا، ألم تكن هي الحافز لأسلافنا على خوض الموت والاستهانة بصعاب الحياة حتى بلغوا ما بلغوا من العز والسؤدد، لأنهم لم يكونوا ينتظرون الأحداث حتى تقع ثم يقولون هذا ما قدر الله، بل كان الواحد منهم يهب لمقارعة الخطوب ومنازلة الحوادث، فإما إلى الصدر وإما إلى القبر، فلما عكسنا نحن القضية وفهمناها فهما مقلوبا، وأخلدنا إلى الأرض، وصرنا نتعلل بالأوهام، وكيف يصح أن يكون المكتوب حجة للمغلوب والله عز وجل يقول: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ).
فهذا أحسن تفسير لهذه العقيدة، وهو أنه إذا كان الموت -مثلا- أمرا مقدرا وقضاء محتوما فلماذا الجبن والخور والضعف والوهن مع ما أعد الله للشهيد من الثواب الجزيل والنعيم المقيم…
وهكذا كل تعاليم الدين الحنيف، لو أقمناها كما أمر الله لاستقام حالنا ونجح سعينا، وأدال الله لنا من عدونا، وعلت كلمتنا على الكلم، وكان في ذلك دعاية وأي دعاية للإسلام، وظهور له وأي ظهور على الأديان، ولدخل الناس فيه أفواجا وعمت هدايته العالم أجمع.
فجربوا الإسلام أيها الناس…
مجلة دعوة الحق العدد الرابع والخامس السنة الأولى ربيع الثاني 1377/نونبر 1957